مثل الكثير من السوريين، أحفظ في رأسي صورة ذهنية نمطية عن باريس: عاصمة الآداب والفنون، الأناقة والموضة والعطور، الحب والرومانسية والحريات، وماذا عساه يريد الانسان أكثر…” هكذا بدأت “يارا” قصة شوقها إلى الحب وسط ضحكات وايماءات سوريين آخرين ساخرين من اخفاقاتهم الأولى. الحب واللغة الحب لغة عالمية، هذا ما يقال، أما بالنسبة ليارا ” أكثر ما أحبطني في محاولات الحب هو اللغة، بأي لغة أفكر به؟ بأي كلمات سأتنهد وأشتكي لوعتي؟ قال لي اشتقت لك. بالفرنسية: تعني حرفياً أنت تنقصيني، أو أفتقدك أو أحتاجك. شيء ما يحتاج إلى شرح في قاموس مشاعري المحايدة تقريباً تجاه هذه العبارة التي تبدو مفعمة بالمعنى أكثر من اشتقت لك العربية. لكني لا أستطيع تذوقها…
-
-
لاجئات سوريات في باريس
الصحّة النفسيّة للسيّدات السوريّات في دول الاستقبال” كان هذا عنوان المحاضرة التي ألقتها طبيبةٌ نفسيّةٌ سوريّةٌ بدعوةٍ من جمعيّةٍ حديثة النشأة وأمام “جمهورٍ” صغيرٍ لا يتعدّى عشرين امرأة. وفي حين ركّزت المحاضرة على تقديم تعريفاتٍ لـ “صدمة الهجرة” وأعراضها وأهمّيّة العناية بالصحّة النفسيّة للمرأة الأمّ خاصّة، شكّلت أسئلة الحاضرات التي طُرحت داخل المحاضرة وعلى هامشها مادّةً غنيّةً ينبغي أن تأخذ حقّها في الدراسات الاجتماعيّة والنفسيّة في ما يتعلّق بقضيّة اللاجئين عمومًا. إنّ مفرداتٍ مثل سيّدات سوريّات، بلدان الاستقبال، صدمة الهجرة… إلخ تساهم في تعويم المشكلة بدلًا من محاولة حلّها عبر تحديد مفرداتها بدقّةٍ علميّةٍ وواقعيّة. ففي واقع الأمر كانت الحاضرات واعياتٍ لمعاناتهنّ النفسيّة وراغباتٍ في التعافي، لكنّ المشكلة عندهنّ كانت…
-
عذابات السوريين والحاجة إلى العذوبة
“أكبر عدو للسلطة، وأضمن طريقة لتقويضها، هو الضحك” لاحظت حنا أرندت أن “أكبر عدو للسلطة، وأضمن طريقة لتقويضها، هو الضحك” في اشارة إلى أهمية السخرية وقدرتها على التعبير عن مكامن الخلل في علاقتنا بالسلطات المتعددة القابضة على مفاصل حياتنا. مجموعة “الميمز” احدى المجموعات الساخرة التي تستطيع بوخزة عذبة أن تنكأ دمامل صلبة متجهمة تخفي وجوهاً متعددة من القبح الرصين والتسلط المقدّس. احدى منشورات الميمز تتناول “الصراع” المرير بين المرأة والرجل: تتأمل المرأة في “سي السيد” المُشتهى لتخلص إلى تصنيف حاسم جازم لمراحل تطوره (متجاهلة مسؤوليتها ومسؤولية المجتمع أساساً) كما يلي: “مراحل نمو الرجل: طفل غليظ، مراهق متهور، شاب صايع، زوج خاين، أب مهمل، ختيار داير بالبيت عم يطفي اللمبات”!…
-
ضوء ومنشفة و لايك
في الأغنية الفيروزية، تحتفل العاشقة بحبيبها، وتخبرنا عن ميزاته: فهو ليس الفارس المغوار ولا المقاتل البطل ولا الزعيم المحنك وليس النجم الوسيم ولا الحبيب المُنكفء وقد أقعدته لواعج الهوى. إنه الرجل المشتاق ابن الواقع المعقد الذي يفهم شرطه ويعي قيوده، فيتحايل ويناور عبر “تكتيكات” يستلهم فيها الممكنات المتفلتة من حصار السلطات . فالعاشق متمرّد بطبعه، وها هو يقترح على حبيبته أكثر من وسيلة يستطيعان عبرها مدّ الجسور واجتراح الحلول تحدوه لهفة التجاوب وتوكيد العهود. “كل ليلة عشية قنديلك ضوّيه، قوي الضو شوية وارجعي وطيّه، بيعرفها علامة …” تفرح العاشقة بانتصارهما، فتخبرنا عن كشفهما في مسعى، مفعم بالزهو، لتعميم الخبرة. فالعشاق “أمة” متآخية متضامنة، والعاشق الحق هو من يحب كل العشاق…
-
من حكايات الفرات: ربيعان وربيعة
هذه “هناء”، ربيعتي. هكذا قدّمها “رائد” إلى أصدقائه في دير الزور شمال سوريا. أردف “سائد” ضاحكاً مذّكِراً بوجوده: وأنا ربيعهما! في مشهد لا يُشبه غيره: كان ليل البادية الآسر يهبط على الجسر المعلّق الذي تهتّز عوارضه الخشبية تحت أقدامهم فتكاد تُفقدهم توازنهم. يُرافقه صوت نهر الفرات الطاغي ورذاذه المتطاير عبر فراغات العوارض ومن جانبي الجسر المسوّرين بحبال متباعدة. وكان بحوزة الثلاثة، هناء ورائد وسائد، تلك المفردة العجيبة: ربيعي. سائد ورائد هما أبناء عمّ. أما هناء فهي قريبتهما التي وصلت لأول مرة إلى دير الزور بعد وفاة والدها الشاميّ. كان الأخير قد ترك لأمها “ثروة” صغيرة ووصيّة حارّة بأن ترسل ابنتهما لتتعلم خارج سورية. وهكذا قرّرت الأم أن تُمضي هناء عطلة…
-
القلب البستان، وحياة بحامضها وحلوها
السكاكر أو البونبون أو “الدروبوس” كما ينطقها الحلبيون، تلك الحبّات اللوزية الملّونة، كانت بهجة طفولة عائلة ممتدة من الأبناء إلى الأحفاد، شملت المعارف والجيران، وسافرت مراراً مع أقارب كزوّادة دفء يسري في خاطر كل من عرف العّم أبو عبدو “القصير”. كان قصيراً بالفعل وراضياً بلقبه الذي ضمِن له تميّزه عن سواه من آباء العبد الكثيرين هناك. سكاكر القصير كانت “فلسفة” حياة ابتكرها وسعى لتطويرها ونشرها بكل ما أُوتي من عفوية وسلاسة ومثابرة. فها هي الخضراء المشبعة بعبق النعنع حاضرة لتداوي البلعوم، والصفراء للرشح والبرتقالية لتنشيط الجسد والكرزّية للقلب الشقيّ، أما البنيّة الفواحة بالعرق سوس فكانت للمزاج. وإلى جانب وظائفها الصحية المزعومة، ومتعتها الشحيحة، فهي كانت الخيط السحرّي الذي يشد رباط…
-
تحت البلاطة
“إنصاف لابن عمّها جمال”، جملة ولدت مع إنصاف، ورافقتها مثل إعاقة أليمة أليفة لا سبيل للفكاك منها. كان جمال راضياً عما امتلكه وهو صغير، لكنه أيضاً كان زاهداً بمُلك لم يسعَ له ولم يطلبه أصلاً. فما إن اشتدّ عوده حتى لملم ما استطاع من أموال الناس المكتتبين على شقق سكنية في جمعيته الوهمية، “التضامن”، وفرّ هارباً، مشهراً إفلاس شركته، مخلفاً وراءه فواجع وجراح طالت نحو مئة أسرة تجرأت على الحلم المشاغب بالسكن في شقة مستقلة عن بيت أهل الزوج. “أخرِجوا ما تحت البلاطة”، كلمة السرّ التي التقطتها إنصاف وفتحت بها أبواب بيت المال أمام جمعية ابن عمها المزعومة. بضع كلمات آمرة واثقة تعرف “البئر وغطاه”، حيث لم يعتد ناس ثمانينات…
-
وعود شراب اللوز الحلبي
حسناً فعلوا أهلها حين أسموها عَيّوش. ومَن مثلها كافح ليعيش رغم المرض والفقر والظلم وقلّة الحظ من الجمال والعلم والرعاية، ومَن غيرها مَلك الرضا والصبر حتى نالَ! عيّوش الحلبية السمراء (يصفونها في حلب العنصرية تجاه ألوان البشرة بالسوداء)، ويتندرّون على ضآلة حجمها وخلّوه من التكورات “اللّحام الشاطر لا يستطيع أن يشّف منها كيلو لحم”، “قفّة (سلّة) عظام اللهم عافينا”.. هذا تصنيف القريبات قبل الغريبات. عين الحب عين واحدة أنصفتها وحمتها من شرور العالم، عين ابن عمّها الذي بالفعل لم يكن له سوى عين واحدة تبصر والأخرى مظلمة. أرادها ولم تزده معارضة الأهل إلا طلباً، فصارت له زوجة وحبيبة. لم يكن بينهما قصة عشق، لا غزل ولا شعر، لا سهر ولا…
-
هواجس اللاجئين وصمتهم
لا داعي أن تسأل عن السوريين في المُجمَّع. ستعرفهم بعد أول ذهول: هم الخائفون الحذرون المرتبكون الذين يتحدثون همساً وينقلون لك أبسط المعلومات بالإشارة والتلميح كما لو كانت أسراراً عسكرية! عدة عائلات سورية، وعائلتان فلسطينيتان اجتمعوا في مجمع في العاصمة الفرنسية. كان الفلسطينيون أكثر انفتاحاً لكنهم خرجوا من المجمع بعد أيام. لماذا أخرجوا الفلسطينيين وأبقوا السوريين؟ سؤال سيفتح قريحة السوريين على “التحليلات” و”التوقعات” التي تذهب بعيداً كالعادة. المحاباة ذخيرة فاسدة طالب لجوء سوري يمتدح الطعام الفرنسي مشدِّداً على الكلمات أمام كاميرا يفترضها موجودة، قائلاً: طعام خمس نجوم، هذه فرنسا أرض حقوق الإنسان! تهمس إحداهنّ: كلّ هذا المديح لأجل الرّز المسلوق، ماذا سيقول لو قدّموا له الرّز بالشعيرية؟ تنفرج أسارير الحاضرين…
-
ألبستني كشجرة.. سماور و حكايات و حب
لمحة من أمي الكثيرة لكن لن أصدّق أن أحداً بالحنين إلى يوم الخميس في سبعينيات القرن الماضي. حيث تقوم قيامة البيت قبل يوم العطلة الوحيد (الجمعة). صرير الغسالات اليدوية وبخار الماء المفعم بروائح “أدوية” الغسيل التي تتصاعد من برميل غلي الثياب البيضاء والطشوت المتعددة للتبريد والشطف والنقع بالنيلة. استنفار شامل، تُنزع الملاحف والأغطية والشراشف لتكشف عرّي المفروشات وألوان دواخلها وطراز تصاميمها، تتكوّم تلال من الألبسة بانتظار دورها الذي سيستهلك يوماً بطوله مع أعصاب الأولاد وتذمرهم من الطعام المتقشف كل خميس وضيقهم من رؤية ثيابهم العزيزة وقد رُميت أرضاً مع ثياب بقية الأخوة بحسب تسلسل الألوان دون اعتبار للخلافات البينية التي ستكسر خاطر تنورة الأخت وقد اعتلتها بيجاما الأخ الرياضية وجاورتها…