لاجئات سوريات في باريس
قضايا وحكايا

لاجئات سوريات في باريس

الصحّة النفسيّة للسيّدات السوريّات في دول الاستقبال” كان هذا عنوان المحاضرة التي ألقتها طبيبةٌ نفسيّةٌ سوريّةٌ بدعوةٍ من جمعيّةٍ حديثة النشأة وأمام “جمهورٍ” صغيرٍ لا يتعدّى عشرين امرأة.

وفي حين ركّزت المحاضرة على تقديم تعريفاتٍ لـ “صدمة الهجرة” وأعراضها وأهمّيّة العناية بالصحّة النفسيّة للمرأة الأمّ خاصّة، شكّلت أسئلة الحاضرات التي طُرحت داخل المحاضرة وعلى هامشها مادّةً غنيّةً ينبغي أن تأخذ حقّها في الدراسات الاجتماعيّة والنفسيّة في ما يتعلّق بقضيّة اللاجئين عمومًا.

إنّ مفرداتٍ مثل سيّدات سوريّات، بلدان الاستقبال، صدمة الهجرة… إلخ تساهم في تعويم المشكلة بدلًا من محاولة حلّها عبر تحديد مفرداتها بدقّةٍ علميّةٍ وواقعيّة. ففي واقع الأمر كانت الحاضرات واعياتٍ لمعاناتهنّ النفسيّة وراغباتٍ في التعافي، لكنّ المشكلة عندهنّ كانت في أسئلةٍ تتعلّق بحقيقة كونهنّ لاجئات، بمعنى: نحن لاجئاتٌ نشعر بإثم النجاة (وهذا الشعور لا يضغط على المهاجر النمطيّ كما يفعل مع اللاجئ). وهنا تساءلت بعض الحاضرات: ألا يعدّ شكلًا من أشكال الرفاهية أن نتّجه إلى العلاج النفسيّ في الوقت الذي يموت فيه سوريّون نتيجة نقص الطعام أو الدواء؟! هذا النوع من المشاعر والمحاكمات شائعٌ بين اللاجئين الذين يعدّون التشارك الوجدانيّ في المعاناة والتألّم وتعذيب الذات، ربّما، تعبيراتٍ عن التمسّك بالهويّة والمشتركات المتعلّقة بها.

ــ ثمّ إنّ هذه البلدان ليست بلدان استقبالٍ دائم، فهي تستضيف مؤقّتًا، كما هو واضحٌ من خلال تحديد مدّة اللجوء بعددٍ من السنوات ترتبط باستمرار الخطر في البلد الأصليّ، ما يجعل وضع اللاجئ متعارضًا مع مفهوم الاستقرار والاندماج، إذ لا يعقل أن يطالب الإنسان بالاندماج لسنةٍ أو ثلاثٍ أو عشرٍ حتى -كما هو الحال في فرنسا- ثم يكفّ عن الاندماج هنا ليعود ويندمج هناك! كما أنّ هناك فقدانَ أمانٍ ملموسًا جرّاء العنصريّة المتنامية والدعوات إلى طرد اللاجئين وتحميلهم تبعات تراجع مستويات المعيشة والخدمات في بلدان اللجوء… هذه البلدان التي لم تطوّر آليّات استقبالٍ خاصّة باللاجئين كمجموعاتٍ بشريّةٍ لها خصوصيّاتها ومتطلّباتها، حيث تركّز الجهد والأموال على التعامل مع قضيّة اللاجئين وفق صيغٍ إسعافيّةٍ وإجرائيّةٍ فرديّة. ومن المفارقات العجيبة أنّ اللاجئ المطالب بالاندماج محكومٌ عليه بالتشظّي بين واقعين: هنا وهناك، جزء من أسرته الصغيرة هنا وجزء هناك، لن نتحدّث عن ذاكرته وعاداته وأملاكه، وإنّما عن واقع أنّ حياته الفرديّة نفسها مشطورةٌ إلى أجزاء، حيث يعيش في بلد اللجوء حياته الاقتصاديّة والاجتماعيّة في حين يحرم من حقوقه السياسيّة بالانتخاب والترشيح مثلًا، في الوقت الذي ربّما سيشارك في الانتخابات التي من المحتمل أن تجرى في بلده! أمّا الجزء المتعلّق بمستقبله، فبالتأكيد الصورة ضبابيّةٌ في ظلّ عالمٍ يتغيّر ليس سياسيًّا وإنسانيًّا فحسب وإنّما جغرافيًّا أيضًا.

ــ وما يعانيه السوريّون ليس “صدمة هجرة” بل هو “أزمة لجوء” وقد طرحت أسئلة من قبيل: هل تختلف معاناة فردٍ مهاجرٍ عن معاناة فردٍ لاجئٍ هو جزءٌ من مجموعةٍ بشريّةٍ لاجئةٍ إلى دولٍ يشعر اللاجئ إليها أنّها مسؤولةٌ عن معاناته بصورةٍ ما؟

ــ تشكّل البيروقراطيّة الموجودة بدرجاتٍ متفاوتةٍ في كلِّ دول اللجوء أحد أكبر أسباب مفاقمة المعاناة النفسيّة للاجئين. حيث يستنفد اللاجئ معظم مدّخراته النفسيّة والماديّة للحصول على فرصة اللجوء أوّلًا، ثمّ في انتظار القرار وترتيبات وضعه وحياته اليوميّة (ويعاني كثيرون لسنواتٍ من إجراءات لمِّ الشمل مع أطفالهم!) لتبدأ رحلة معاناةٍ مع اللغة والعمل الذي سيكون في معظم الحالات هامشيًّا وخدميًّا وبعيدًا عن مجالات وكفاءات اللاجئ، الأمر الذي يفاقم عزلة اللاجئ وغربته عن نفسه ومحيطه. وهذه البيروقراطيّة نفسها هي العائق الأهمّ أمام اللاجئ الراغب في التعافي النفسيّ، حيث يتطلّب الحصول على موعدٍ مع طبيبٍ مختصٍّ ستّة أشهر (وسطيًّا)! فضلًا عن مسألة بأيّ لغةٍ سوف يتحدّث المريض إلى طبيبه؟ وقد تساءلت إحدى الحاضرات: هل يمكن الاستعانة بمترجم، وكيف يمكن تأمينه، وما هي مؤهّلاته؟ ولاسيّما أنّ هناك الكثير من الأعراض والإشارات والعبارات والسلوكيّات والكوابيس أيضًا لا يمكن فهمها خارج مدلولاتها الثقافيّة الخاصّة.

“ندى” النموذج الصارخ للاجئة

وسط زحمة الأسئلة والجوّ الكئيب المخيّم على قاعة المحاضرة، نهضت “ندى” الصبيّة النحيلة في بداية عشرينيّاتها لتتحدّث عن تجربتها كما يلي: “عانيت في سورية من القصف والنزوح والتشرّد ووصلت إلى فرنسا بعد رحلةٍ قاسيةٍ في البحر لأعاني بعدها من شروطٍ بدأت تضغط عليّ وتفقدني توازني. بدأتُ رحلة علاجٍ لم تزدني إلّا مرضًا ويأسًا من إمكان بقائي على قيد الحياة، حيث شُخِّصَ مرضي كأحد الأمراض العضويّة وبدأ الشلل يمتدّ من أطرافي إلى معدتي وصولًا إلى قدرتي على الكلام، ليتمّ إنقاذي بمصادفةٍ بحتة، حين اقترح الطبيب تحويلي إلى العلاج النفسيّ، ليتّضح أنّ الشلل الذي عانيت منه كان أصلًا ذا منشأ نفسيٍّ لا عضويٍّ. وهكذا بدأت رحلة علاجٍ جديدة، أسفرت عن تحسّنٍ واضحٍ وعودة القدرة على الحركة والأكل والكلام رغم المعاناة التي لا تزال ظاهرةً للعيان بسبب ما لحق الجسد من أذى قبل اكتشاف حقيقة المرض”. كان صوت “ندى” يتهدّج وجسدها لا يكاد يحملها وهي التي اختارت أن تتحدّث واقفةً، ربّما كانت سعيدةً باستعادة قدرتها على الوقوف. حين بدأ الجميع يصفّق فرحًا بنجاة “ندى” ومهنّئًا إيّاها على شجاعتها وتمسّكها بالحياة، قالت “ندى”: إنّها أصرّت على المجيء لتشارك تجربتها، ولتخبر الجميع ألّا يكتفوا بالاعتراف بمرضهم فحسب، بل أن يطلبوا العلاج وأن يخبروا الأطباء والمسؤولين أنّنا كلاجئين ولاجئات عانينا ما لا تستطيعون تخيّله، ومن حقّنا أن نحصل على رعايةٍ صحيّةٍ ونفسيّةٍ تامّة، من دونها لن نستطيع تحمّل أبسط المسؤوليّات في شؤون حياتنا.

05/01/2018

أصوات

لقراءة المقال الأصل اضغط/ي هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *