مقالات نسوية

التحرش الجنسي والعنف ضد المرأة في أوربا

ثلث نساء أوربا يعانين من العنف الجسدي والجنسي! ومن أصل (62) مليون امرأة أوربية تعرضن للتحرش منذ سن الخامسة عشر، هناك (9) ملايين امرأة مغتصبة!

تبدو صادمة ومخيفة هذه الأرقام التي نشرتها أحدث دراسة أجرتها وكالة الاتحاد الأوربي مطلع العام الحالي، ما يثير مئات الأسئلة عن ظواهر العنف المجتمعي عموماً، والعنف تجاه النساء خاصة، وسبل الكشف عنها وإعلانها وصولاً للتعاطي معها كظاهرة بشرية عامة تقتضي الاعتراف بوجودها ومخاطرها، وإيجاد السبل الكفيلة بالوقاية منها والحد من تفاقمها ومعالجة نتائجها ما أمكن. إذ سبق للبرلمان الأوربي أن اعتبر التحرش جريمة تنتهك حق الانسان في الأمن الجسدي والنفسي، وهو الحق المشرع في لائحة حقوق الإنسان، والذي تم تأكيده في اتفاقية مناهضة التعذيب 1984.

أين تحدث جرائم العنف ضد النساء

تعتبر الأماكن المزدحمة (الحشود ووسائط النقل العامة وأماكن العمل والنوادي) بؤراً للتحرش الجنسي، لدرجة تصبح معها الدعوة إلى البقاء في المنزل هي الحل الأمثل والأكثر أمناً للنساء! الأمر الذي تؤيده معظم التوصيات المحافظة اجتماعياً أو دينياً. لكنه يتنافى مع واقع الحال إذا ما علمنا أن 22% من النساء الأوربيات تعرضن لعنف جنسي من الشريك، ناهيك عن نسبة مرتفعة تتعرض لعنف منزلي (الشتم والصراخ وتكسير الأشياء، وصولاً إلى الضرب المبرح والحرق والقتل)، ما يجعل المنزل بيئة خصبة لإنتاج العنف الجسدي، حيث يستفرد الرجل العنيف بضحيته في مكان له خصوصيته وحرمته، ويصبح إثبات واقعة الاعتداء شبه متعذر، الأمر الذي جعل 67% من النساء الأوربيات (حسب الدراسة) يمتنعن عن الشكوى والإبلاغ عما تعرضن له، بالإضافة إلى أسباب أخرى مرتبطة بالخوف والخجل وعدم الثقة بقوة القضاء ومرونته وقدرته على حمايتهن من تكرار التعرض للعنف.

وتفيد الإحصاءات أن الأماكن المنعزلة والنائية ومعظم الأماكن في أوقات الليل، وكذلك الأماكن الشعبية غير المنارة تعتبر مناخاً ملائماً لزيادة حوادث التحرش الجنسي. إذن من حيث المكان، تعتبر كل الأماكن في وقت ما ولسبب أو لآخر بيئات محتملة للعنف الجسدي! الأمر الذي يسري داخل حدود كل الدول دون استثناءات تذكر!

فرغم ندرة البيانات والإحصاءات والبلاغات، إلا أن حوادث التحرش الجنسي والعنف طالت حتى أماكن العبادة (قضايا التحرش الجنسي من قبل كهنة تابعين للكنيسة الكاثوليكية تجاه فتية قُصّر. ولا يقتصر الأمر على الكهنة بل يتعداه إلى رجال دين آخرين تتم الإشارة إليهم غمزاً وتلميحاً).

من هم ضحايا العنف الجسدي والتحرش الجنسي

يسود الاعتقاد أن الشرائح الأشد ضعفاً وهامشية (النساء والفقيرات عموماً) في المجتمع هن الأكثر تعرضاً للتحرش الجنسي، وربما مرّد ذلك إلى الوفرة العددية لهذه الشرائح، وبالتالي من الطبيعي أن يكون عدد المعنفات منها أكبر من العدد الإجمالي من المعنفات من الشرائح الاجتماعية الأعلى، إلا أن الإحصاءات تفيد بأن « 75% من الأوربيات اللواتي تعرضن للتحرش هن موظفات في الإدارات العليا»، ومع ذلك لا يمكن التسرع في الاستنتاج بأن النساء في أعلى السلّم الوظيفي أو الاجتماعي هن الأكثر عرضة للتحرش، إذ غالباً ما يمتنع أبناء الطبقات الاجتماعية الأدنى (والأطفال والمعوقون والمسنّون) عموماً عن الإفصاح عن تعرضهم للعنف لأسباب كثيرة، منها عدم تمكنهم من الوصول إلى المهتمين والباحثين، ومنها متعلق بالخوف من انتقام الجناة والخجل والإحساس بالذنب ومشاعر القلق من الفضيحة والعار الاجتماعي، وعدم الوعي بحقهم في العلاج والرعاية الاجتماعية والتقاضي…إلخ.

وبالإضافة إلى النساء، يواجه الأطفال وطلاب المدارس من الجنسين حوادث متنوعة من الاعتداء الجسدي بقصد التعنيف أو التحرش وذلك من قبل زملائهم الطلاب الأكبر سناً ومن قبل الأساتذة أيضاً.

ضحايا الاعتداء الجنسي

ولا يعتبر الرجال و(الشبان خصوصاً) بمنأى عن جرائم الاعتداء الجنسي والتحرش، إذ تبلغ «نسبة الرجال المعتدى عليهم ما يقارب 10% في أماكن العمل»، وهي نسبة مرتفعة إذا افترضنا (منطقياً) وجود أعداد أخرى من الرجال لم يصرحوا عن تعرضهم للتحرش أو الاغتصاب من قبل رجال آخرين أو نساء (ربما)، حيث لم تتناول التقارير حالات تحرش النساء بالرجال بما يكفي لاعتبارها ظاهرة عامة. وهكذا نجد أن ظاهرة التحرش الجنسي وصولاً إلى الاغتصاب تتفاقم في كافة المجتمعات وتطال مختلف البشر نساء ورجالاً وأطفالاً، وإن كانت أكثر شيوعاً كماً ونوعاً تجاه النساء الشابات.

تبدو اللوحة قاتمة فيما يخص دول أوربا التي تحظى بمستويات مرتفعة من الحريات وحقوق الإنسان، في حين مازالت بقية دول العالم ترزح تحت قيود إنكار وجود التحرش كظاهرة عامة وإحاطة الموضوع بكثير من السرية والتكتم. وليس أدل على ذلك من الافتقار إلى البيانات والمعلومات التي ترصد نسب انتشار الظاهرة، وندرة الأبحاث والدراسات، وقلة عدد المنظمات والأفراد المشتغلين في هذا المجال، علماً أن حوادث التحرش وتطّرد مع انتشار البطالة، قلة التعليم، التربية الجنسية الخاطئة، الكبت الجنسي وانتشار الأفلام الإباحية، السخط وعدم الرضى..

ومن النافل التذكير بأن تفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية وازدياد حدة الصراعات يرفع معدلات العنف الجسدي بصورة جنونية، ما نجد له أمثلة صارخة في عديد من المناطق الساخنة، ومنها المنطقة العربية وسوريا تحديداً، حيث يستخدم العنف الجسدي والاغتصاب (كسلاح حرب) وأداة إذلال وقهر مادي ومعنوي للخصم/ العدو.

كل ذلك يعني أن الخطر بات داهماً، ولم تعد وسائل الإنكار أو التجاهل أو تحميل الضحية مسؤولية استدعاء فعل الجاني أو دعوة المرأة إلى التزام المنزل وعدم الاختلاط والاحتشام في الملبس وما إلى هنالك من حلول تبسيطية، لم تعد هذه الوسائل قادرة على معالجة جرائم تهدد حياة وأمن واستقرار أعداد متزايدة من البشر يومياً، ما حدا بالدول الأوربية (متأخرة) إلى التحرك على مستوى مؤسساتي، تمثَّل في اتفاقية اسطنبول التي تبنَّتها الدول السبع والأربعون الأعضاء في مجلس أوربا، في 11 أيار 2011، والتي يبدأ سريان مفعولها في الأول من آب 2014 .

اتفاقية اسطنبول

جاءت اتفاقية اسطنبول تتويجاً لنشاط منظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية والنسوية في التعاطي مع قضايا التحرش الجنسي، عبر التعريف بها والكشف عنها، سواء عبر الإعلام والمظاهرات، وتقديم شتى الخدمات الاستشارية المجانية عن طريق خدمة الخطوط الساخنة، وتأمين بيوت وأماكن لمساعدة الضحايا، والدورات والندوات التعريفية، ومختلف وسائل النشر والإعلان من الأغاني، إلى البروشورات في المدارس والمقابلات وتعليم الشابات رياضات مثل الجودو والكاراتيه للدفاع عن أنفسهن، وصولاً إلى المطالبة بتعديل القوانين والأنظمة وسن التشريعات الرادعة.
وتنص الاتفاقية التي أطلقها المجلس الأوربي على التزام الدول الموقعة عليها بتدابير محددة لمكافحة جميع أشكال العنف ضد المرأة مثل التحرش الجنسي والعنف المنزلي والزواج القسري وتشويه الأعضاء التناسلية للإناث (الختان) القادمات من مجتمعات تمارس هذه العادة.
وبمناسبة دخول الاتفاقية حيز التنفيذ، دعا «مدير برنامج القانون والسياسة في منظمة العفو الدولية» «مايكل بوتشنيك» «الحكومات إلى اتخاذ التدابير الكفيلة بإبقاء النساء آمنات من العنف، وحيث تقع الحوادث أو توشك على الوقوع فإنه يجب تزويد الضحايا والشهود بالحماية والدعم..»، وشدد على «حق النساء والفتيات اللاتي استهدفن بالعنف خارج حدود أوربا في الحماية الدولية، بما في ذلك الفتيات اللاتي يلذن بالفرار هرباً من تشويه أعضائهن التناسلية أو من الزواج القسري».
وكانت «المفوضة الأوربية للعمل والشؤون الاجتماعية» «آنا ديامنتوبولو» التي تعتبر نفسها واحدة من ضحايا التحرش الجنسي (عندما كانت طالبة) قد أوضحت أن الهدف من القوانين الموحدة في أوربا (تجريم التحرش) «ليس فتح الباب أمام موجات من الشكاوى في أروقة المحاكم، الهدف الحقيقي هو تحديد إطار قانوني يكون بمثابة رادع يمنع أي شخص رجلاً كان أم امرأة من ممارسة هذه التصرفات..».
وأضاف «بوتشنيك»: «إن الكثير من النساء يعانين بصمت بسبب حرمانهن من وسيلة للتخلص من أوضاع يشعرن بأنها ميؤوس منها.. وأن الاتفاقية توفر لهن أداة قوية للتعامل الشامل مع الانتهاك واسع النطاق لحقوق الإنسان الذي يلحق الخراب بحياة ملايين النساء بشكل يومي في أوربا.. وعلى الحكومات أن تظهر الإرادة السياسية وأن تترجم الاتفاقية إلى تدابير ملموسة.. يتعين على أوربا أن تفيق لترى هذه الحقيقة»!
وإذا كانت أوربا قد استيقظت على المستوى الرسمي والقانوني، فإنه يتعين على البشرية جمعاء أفراداً ومنظمات وحكومات أن تستيقظ وترى وتواجه سرطانها الجديد: التحرش والعنف بكافة أشكاله.

 

ضحى عاشور

02/09/2014

سيدة سوريا

لقراءة المقال الأصل اضغط/ي هنا

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *