قضايا وحكايا

عذابات السوريين والحاجة إلى العذوبة

 “أكبر عدو للسلطة، وأضمن طريقة لتقويضها، هو الضحك”

 

لاحظت حنا أرندت أن “أكبر عدو للسلطة، وأضمن طريقة لتقويضها، هو الضحك” في اشارة إلى أهمية السخرية وقدرتها على التعبير عن مكامن الخلل في علاقتنا بالسلطات المتعددة القابضة على مفاصل حياتنا.

مجموعة “الميمز” احدى المجموعات الساخرة التي تستطيع بوخزة عذبة أن تنكأ دمامل صلبة متجهمة تخفي وجوهاً متعددة من القبح الرصين والتسلط المقدّس.

احدى منشورات الميمز تتناول “الصراع” المرير بين المرأة والرجل:

تتأمل المرأة في “سي السيد” المُشتهى لتخلص إلى تصنيف حاسم جازم لمراحل تطوره (متجاهلة مسؤوليتها ومسؤولية المجتمع أساساً) كما يلي:

“مراحل نمو الرجل: طفل غليظ، مراهق متهور، شاب صايع، زوج خاين، أب مهمل، ختيار داير بالبيت عم يطفي اللمبات”!

ويبحث الرجل في أسباب تعاسته مع ست الحسن والجمال فيجد أن هناك أسباباً ستة مبوبة ومرتبة بما يرقى إلى مرتبة العلم (الذكوري طبعاً):

“هل تعلمون لماذا كان سيدنا آدم سعيد مع ستنا حواء؟

هناك ستة أسباب:

اــ لأنها لم تستطع أن تقول له: أنا ساويتك بني آدم

2ــ روح تعلّم من باقي الرجال

3ــ مين كنت تعرف قبلي؟

4ــ كله من تحت راس أمك

5ــ ليش عم تتطلع بهديك المرأة؟

6ــ بس لو تعرف كم عريس اجاني قبلك؟”

هذا نموذج طيب عن واحد من الاتهامات المتبادلة التي يتمترس حولها الجنسين دون النظر بصوابيتها أو تحليل أسبابها ودوافعها أو البحث عن فرص تغييرها! اذن دعنا نسخر ونتهكم منها أولاً، وليكن الضحك مفتاحاً للباب المغلق في وجه تداول همومنا الحيوية.

في منشور آخر يتناول “الميمز” جانباً من “مقدساتنا” وهو العلاقة مع الأم، العلاقة الشائكة الواجبة التبجيل من جهة، نظراً للأدوار والمسؤوليات العسيرة التي ترزح تحت وطأتها الأم في مجتمعات تخلت عن أبنائها، والواجبة النقد والتصويب من جهة أخرى على اعتبار قصورها وعدم كفاءتها أحد معوقات نمو الأجيال. يذكر المنشور بأساليب التربية السلطوية التي تتبعها ست الحناين:

” أسلحة الأم:

ــ الكف الخماسي: وهو من الأسلحة قريبة المدى ويستخدم في حالات العصبية الضعيفة.

ــ القَرص: سلاح كاتم للصوت يستخدم في حالة وجود ضيوف.

ــ الحزام: هو من الأسلحة المحرّمة دولياً يستخدم في حالات العصبية الشديدة.

ــ الشحاطة: من الأسلحة بعيدة المدى ويستخدم في حالات هروب الهدف.”

 

طرقٌ خفيف على جدران المسكوت عنه

السخرية هنا ليست تهريجاً ولا هجاء لشخص بذاته، وإنما طرقاً خفيفاً على جدران المسكوت عنه، المؤجل المرير الذي يفسد طعم الحياة ويسرق منها غبطة الرضا والتصالح مع النفس والمحيط. هو ادانة لنفاق اجتماعي محسوب يقسّم الأدوار ويشيع التصورات عن الآخر الشريك والحبيب وواهب الحياة في ترسيمات تخدم تأبيد هيمنة نمط ثقافي سلطوي قائم على الخضوع والتسليم والاكراه والقدرية.

السخرية هنا ببساطة تهز شباك السائد المهيمن، تقتحم ميدانه محاولة نزع لبوس المقدس عنه، تنزله من عليائه المترفع لتعيده إلى مكانه بيننا وأمامنا ومعنا، تدعونا لتسمية الأشياء بمسمياتها، تقترح علينا تصورات بديلة واقعية بعذوبة تحاكي ذاكرتنا الحقيقية، وكأنها تدعونا للتخفف من تبعات الكرب المستديم في نفوسنا جراء التشظي بين ما نحن عليه بالفعل وبين التصورات الواجب اعتمادها وتمجيدها على أنها مُثل عليا.

عن فيلمه “الديكتاتور العظيم” قال شارلي شابلن:” كان من الضروري الضحك على الديكتاتور”. الضحك بما هو أحد الوسائل الناجعة للنيل من هيبة السلطات، وفي الوقت ذاته هو وسيلة لمقاومة الانغلاق والتحجر النفسي والعقائدي للبشر، التحجر الموّلد للعنف بكل بشاعاته وعبثيته.

 بالإضافة إلى طرح القضايا الشائكة، تستطيع السخرية أن تلعب دوراً في قول الحقائق (حسب بريخت) وتعميمها بسهولة ورشاقة وسرعة. تلخص احدى كتابات “الميمز” واقع حال السوريين في جملة واحدة:

” السوري: ألو، مين معي؟!

العالم: ما حدا معك، كلنا ضدك”

من السخرية إلى الشعر:

تنشغل السخرية بما هو راسخ متصلب تقليداً أو واقعاً، على حين يجري الشعر وعينه على فضاءات بكر يحدس بوجودها. إنه أحد عذوبات الأمل بالانعتاق من وطأة السلطات ورهبتها، ولذلك يصبح مشكوكاً في شاعريته قبل انسانيته كل مدّاح لزعيم أو حاكم أو متسلّط.

من سوريا المعذّبة، تغرّد شاعرتان (على سبيل المثال لا الحصر) الشاعرة “رشا عمران” التي رفعت عتبة السحر والجمال إلى ما بعد سن الخمسين، حيث طال المكوث أمام سيدة محمود درويش التي “تدخل الأربعين بكامل مشمشها”. ومع الشعر وبفضله فتحت رشا نوافذ الاحتفال بالانسان وحقه باشباع حاجاته ورغباته. الانسان المعزول المحاصر المحَارب والمرَاقب الوحيد الراغب بالتفاعل مع العالم، إنه يتغير ويغيّر عبر نوافذ الشعر المفتوحة باتجاهين، المشرعة لتبادل الوجود يوميات عذبة متخمة بالعذاب المكابر المتمرد العنيد الرافض للغرق في متاهات الغمّ والتشكي والندّب والنقّ وسوداوية اليأس وقلة الحيلة.

 ومن ألمانيا، ينطلق باص الشاعرة السورية “مها بكر” ليجوب العالم بأزرقه الافتراضي (الفيسبوك) وألوانه الواقعية، ينثر بذور فاكهة وفيرة تكفي لكل الجياع، إنه الشعر الذي يصلح غذاء ودواء، منديلاً ورقياً عند اللزوم، وماء جارٍ مبذول لكل حيّ. مع مها، الشعر رفيق بيد دافئة تسند القلب، ظلّ المقهور وواحة المحتاج والجنة التي تغرينا بالحياة وفاكهتها الحلال: الحرية.

عذابات السوريين لم تعد بحاجة إلى بيان، بقدر ما تتطلب معبراً للخلاص. ولعل في عذوبة السخرية والشعر والفن والثقافة عموماً، ما يفتح نوافذ الأمل بإنجاز عمل طال انتظاره واستمر تجاهله وتسويفه. والمقصود: انجاز المراجعة النقدية لمعارفنا وثقافتنا وسياستنا وسبل اجتماعنا ومجمل عاداتنا وسلوكياتنا، أي صياغة هويتنا بما يليق بثورة نحن شهودها. إن لم نكن صانعيها أو ضحاياها.

فن السخرية والشعر، هما اليوم هامشان يطالهما ما يطال كل هامش عادة من التجريح والمراقبة والتطاول والاستهانة والتشكيك، لكنهما مثل كل هامش جديران بالارتقاء والاتقان في سياق السعي المستمر لنيل الحرية والعدالة والكرامة الانسانية.

 

2015

شبكة المرأة السورية

لقراءة المقال الأصل اضغط/ي هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *