لا داعي أن تسأل عن السوريين في المُجمَّع. ستعرفهم بعد أول ذهول: هم الخائفون الحذرون المرتبكون الذين يتحدثون همساً وينقلون لك أبسط المعلومات بالإشارة والتلميح كما لو كانت أسراراً عسكرية! عدة عائلات سورية، وعائلتان فلسطينيتان اجتمعوا في مجمع في العاصمة الفرنسية. كان الفلسطينيون أكثر انفتاحاً لكنهم خرجوا من المجمع بعد أيام. لماذا أخرجوا الفلسطينيين وأبقوا السوريين؟ سؤال سيفتح قريحة السوريين على “التحليلات” و”التوقعات” التي تذهب بعيداً كالعادة. المحاباة ذخيرة فاسدة طالب لجوء سوري يمتدح الطعام الفرنسي مشدِّداً على الكلمات أمام كاميرا يفترضها موجودة، قائلاً: طعام خمس نجوم، هذه فرنسا أرض حقوق الإنسان! تهمس إحداهنّ: كلّ هذا المديح لأجل الرّز المسلوق، ماذا سيقول لو قدّموا له الرّز بالشعيرية؟ تنفرج أسارير الحاضرين…
-
-
ألبستني كشجرة.. سماور و حكايات و حب
لمحة من أمي الكثيرة لكن لن أصدّق أن أحداً بالحنين إلى يوم الخميس في سبعينيات القرن الماضي. حيث تقوم قيامة البيت قبل يوم العطلة الوحيد (الجمعة). صرير الغسالات اليدوية وبخار الماء المفعم بروائح “أدوية” الغسيل التي تتصاعد من برميل غلي الثياب البيضاء والطشوت المتعددة للتبريد والشطف والنقع بالنيلة. استنفار شامل، تُنزع الملاحف والأغطية والشراشف لتكشف عرّي المفروشات وألوان دواخلها وطراز تصاميمها، تتكوّم تلال من الألبسة بانتظار دورها الذي سيستهلك يوماً بطوله مع أعصاب الأولاد وتذمرهم من الطعام المتقشف كل خميس وضيقهم من رؤية ثيابهم العزيزة وقد رُميت أرضاً مع ثياب بقية الأخوة بحسب تسلسل الألوان دون اعتبار للخلافات البينية التي ستكسر خاطر تنورة الأخت وقد اعتلتها بيجاما الأخ الرياضية وجاورتها…
-
عن عذابات علي البدري !
وظائف الأمومة : قبل التلفاز، كانت الحكاية إحدى وظائف الأمومة، حتى أننا درجنا على نسخ مواضيع التعبير السنوية عن “عيد الأم” من كتب الإنشاء التي تزخر بتعداد موجبات تقدير الأم، فإذ بها إلى جانب سيل الخدمات التي تؤديها، لا تهمل واجبها الاجتماعي والوطني بزرقنا بحقن “الثقافة” عبر حكايات ما قبل النوم. كانت حكاياتنا مفعمة بالوعظ والأحكام. إحداها مثلاً حكاية “عروج ومروج” التي تشبه حكاية شعبية تونسية اسمها “أمي سيسي” حيث يتعاطف النهر مع القط ويجبر الآخرين كل بدوره على بذل ما يمكن لإنقاذه. أما في نسختنا السورية، فكانت العصا هي التي تنهض لتأديب الكسالى فيهرع الجميع إلى أعمالهم! وكانت الترنيمة التي ينبغي ترديدها قبل تمنّي الخير والأحلام السعيدة: العصا خرجت…
-
الخالة فطينة
“روب دي شامبر”: هي من جيل سعى إلى موت هادئ في الستين من العمر، بعد أن يتزوج الأولاد ويمتلئ صحن الدار بالأحفاد، وبعد أن تكون هي و “الحجي” زوجها جالسين على شرفة مربع “العلّية” (غرفة النوم)، يشربان قهوة العصر، وهي في ثوب نومها الفيروزي المستتر تحت “روب دي شامبر”. لا تحب الخالة فطينة أن تتخلى عن هذه التسمية الفرنسية. تشعر أن فيها نوعاً من الرفاه والإيحاء، حيث تعتقد أن مصدرها عثماني من أيام “الحرملك”! بيضاء وشقراء: نشأت فطينة في عائلة حلبية فقيرة. لم تكن جميلة، لكنها كانت بيضاء وشقراء، ما يعني امتلاكها جواز مرور ربانيا باتجاه الترقي على درجات السلم الاجتماعي. فالخاطبات يعرفن ما الذي ينفع الذكور: وجه حلو ومؤخرة…
-
عن البلد وهدر الجسد
برغم أنه فجعنا بمصارحتنا أن قمر العشاق ليس إلا مكاناً معتماً وبارداً، مليئاً بالحفر والتضاريس، إلا أننا كنا نزداد تعلقاً به وبدروسه. مدّرس العلوم الطبيعية اليساري الذي كان يجرؤ أن يتحدث عن الجسد بعد صراع دموي بات يُشار إليه بعبارة محايدة: “أحداث الثمانينيات” في سوريا، ليخبرنا أنه ينبغي معرفة خارطة الجسد قبل خارطة البلد! وهل يتحرّق المراهق إلى معرفة شيء أهم من الجسد وتحولاته؟ هيهات أن ترتوي مما تشتهي معرفته. كان علينا أن نقطع طريقاً متعرجة شائكة، نمرّ فيها على كل مخلوقات الأرض من وحيد الخلية إلى الديناصور، أن نعبر المجاري التنفسية للسمك ونحفظ عن غيب أجزاء جهاز اطراح الصرصور وطرق تكاثر النباتات، ونستبطن كل طبقات الأرض، لننتهي إلى معرفة…
-
في البحث عن حكاية لطارق ..
كَمَن يكابد شهوة ممضّة، وبصوت ضجِرٍ آمر، باغتني طارق: بدّي (أريد) حكاية ! طارق الذي لا يعلم شيئاً عن تعليمات مركز إيواء النازحين في ريف دمشق، التي تمنع المتطوعين من الاقتراب من تفاصيل وخصوصيات الأطفال، عاجلني بأمر آخر: بدي حكاية ما فيها حرب ! في المركز الذي لا أدري من أية مرجعية يستقي تعليماته، أوعزوا لنا أن نشاغل الأطفال عن همومهم بالنشاطات واللعب النهاري، سكتوا عن الليل وشجونه، ولم يفطنوا إلى احتمال طفل يطلب حكاية في عزّ الظهر ساهياً عن صخبنا البهلواني ونحن نحاول استيلاد فرح وسكينة من رعب ودماء! ليد طارق قضية لا تخطئ هدفها (كم من الأطفال أصبحوا من دون أطراف!) فهي تعلقت بثياب نازحة من الحجر الأسود…
-
أجيال من كرديات لا تعرفهن الكاميرات
كاملة التي كبرت بين جحيمين: الذاكرة والحياة.. «وقرعان (قرآن) صدر سيدي».. لا يملك المرء أمام هذا الحلفان إلا الغفران! حتى لو كادت طفلته تكون ضحية اعتقادات مربيتها كاملة. ببساطة كانت كاملة تعتقد أن المسيحيات فقط يمكن أن يولدن شقراوات بعيون خضراء، ولذلك ارتابت من وجود طفلة ملونة في منزل الشيخ العربي المسلم، فما كان منها إلا أن نزعت الدبوس عن فتحة ثوبها وهمّت بنقش الصليب على صدر الطفلة بغية استعادة حقها «المنتهك» في حمل هويتها، وفق تهيؤات مخيلة كاملة المثخنة بقصص ومرويات ضحايا المجازر التركية وما خلفته من نازحين ومهجرين ومفقودين وعائلات مكلومة بتغيير أسماء أولادها أو كنياتها تجنباً للانتقام، وأطفال تركوا في الطرقات وقد شارفوا على الموت. كل القصة…
-
لاجئون سوريون في باريس، لم نقع في الحب بعد
ضحى عاشور– مثل الكثير من السوريين، أحفظ في رأسي صورة ذهنية نمطية عن باريس: عاصمة الآداب والفنون، الأناقة والموضة والعطور، الحب والرومانسية والحريات، وماذا عساه يريد الانسان أكثر…” هكذا بدأت “يارا” قصة شوقها إلى الحب وسط ضحكات وايماءات سوريين آخرين ساخرين من اخفاقاتهم الأولى. الحب واللغة: الحب لغة عالمية، هذا ما يقال، أما بالنسبة ليارا ” أكثر ما أحبطني في محاولات الحب هو اللغة، بأي لغة أفكر به؟ بأي كلمات سأتنهد وأشتكي لوعتي؟ قال لي اشتقت لك. بالفرنسية: تعني حرفياً أنت تنقصيني، أو أفتقدك أو أحتاجك. شيء ما يحتاج إلى شرح في قاموس مشاعري المحايدة تقريباً تجاه هذه العبارة التي تبدو مفعمة بالمعنى أكثر من اشتقت لك العربية. لكني لا…