ضحى عاشور, أجيال من كرديات لا تعرفهن الكاميرات
قضايا وحكايا

أجيال من كرديات لا تعرفهن الكاميرات

كاملة التي كبرت بين جحيمين: الذاكرة والحياة..

«وقرعان (قرآن) صدر سيدي».. لا يملك المرء أمام هذا الحلفان إلا الغفران!

حتى لو كادت طفلته تكون ضحية اعتقادات مربيتها كاملة. ببساطة كانت كاملة تعتقد أن المسيحيات فقط يمكن أن يولدن شقراوات بعيون خضراء، ولذلك ارتابت من وجود طفلة ملونة في منزل الشيخ العربي المسلم، فما كان منها إلا أن نزعت الدبوس عن فتحة ثوبها وهمّت بنقش الصليب على صدر الطفلة بغية استعادة حقها «المنتهك» في حمل هويتها، وفق تهيؤات مخيلة كاملة المثخنة بقصص ومرويات ضحايا المجازر التركية وما خلفته من نازحين ومهجرين ومفقودين وعائلات مكلومة بتغيير أسماء أولادها أو كنياتها تجنباً للانتقام، وأطفال تركوا في الطرقات وقد شارفوا على الموت.

كل القصة أن كاملة بنت «الدرباسية»، البلدة العالقة على الحدود المتشابكة بين سوريا وتركيا، لم تكن تعرف غير السكان الأصليين الفارين من مجازر بداية القرن الماضي: الكرد البيض أو السمر بعيون سوداء آسرة، وجيرانهم الأشوريين والأرمن ذوي العيون الملونة والشعر الأشقر! وربما كان اسم طفلة الشيخ المسلم «بتول ــ لقب العذراء مريم» أحد الدلائل القاطعة التي جعلت الدبوس يباشر حفر الصليب دون تردد! هكذا يحمل الكردي «جينات» الغبن والحذر والنفور من الظلم في عروقه، جنباً إلى جنب مع «جينات» النزق والميل إلى اصلاح العالم بيديه!

كانت كاملة التي لم تكمل السبعة عشر عاماً تُعامل كعانس في بلدتها المثابرة على قطف زهرات أعمار الفتيات والحاقهن بالخدمة المنزلية التي تمتد وتتوسع لتشمل خدمة الأرض وما عليها من الدواجن والمزروعات والأقارب تحت مسمى الزواج .

مراهقة فعلية وعانس مفترضة:

 كمراهقة فعلية وكعانس مفترضة، واظبت «كاملة» على حمل دهشتها وتمردها وصخبها الساخر وسخطها المرّ على نقصها وعوزها، لكنها أخيراً كشفت عن وجه قلبها الطيب الذي ذاب خجلاً وطلباً للمعذرة عندما سحرت الجميع برجائها المتجه إلى قلب الشيخ مباشرة: «وقرعان صدر سيدي ما كنت بدي أقتلها»!.

لم تحلف بالقرآن هكذا على اطلاقه، ولم تشر بيدها إلى النسخ الوفيرة منه في منزل الشيخ، كما يحدث في ردهات محاكم الدولة «العلمانية»، فطرتها قادتها إلى الاستنجاد بالنسخة الفريدة للقرآن المحفوظة في قلب الشيخ! فكان لها الصفح، وكان للآخرين تذوق طعم قرآن الصدور التي تعرف طريقها إلى التعارف والتسامح.

فهيمة التي لم تقرأ بنلوب:

امرأة بجسد طفلة يمضي إلى الهرم بسرعة وهو في أواخر الثلاثينات يحمل عبء دزينة أولاد مع بضع عشرات من أشجار الزيتون والدواجن والزوج المريض، لم يكن ينقص فهيمة ابنة «عفرين» إلا أن تسمع خبر اعتقال ابنتها «دلشان» التي خرجت من المنزل قبل شهور لتحرر كردستان مع قوات «أوجلان»، فوقعت أسيرة في سجن «دوما» للنساء قرب دمشق قبل أن تبلغ ساحة الحرب.

لو كان لطريق الشام أن ينطق لحكى عن آلاف أمهات وأهالي معتقلين قطعوه عبر سنين طويلة، والأرجح أنه يحتفظ لفهيمة بسجل خاص، وهي التي هدّ حيلها هذا الطريق، لكنه لم يقوَ على حِيَلها وخدعها البكر في صدّ غدرات الزمن ووعورة طرقه. فهيمة أم الخدود المحروقة بالشمس والشقاء، ذات اليدين الصغيرتين المكتنزتين اللتين تعززان الاعتقاد بأن زيتون عفرين الدسم، صغير الحبات، تشكل على هيئة فلاحات صغيرات مكتنزات بالنكهة والأسرار لهن روح فهيمة وهيئتها وتواضع حجمها وحضورها الصبور الخجول المبذول بسخاء.

في محيط حلب الكثير من الزيتون المنسوب إلى قراه: زيتون حارم وزيتون سلقين وادلب وجسر الشغور.. وهكذا. إلا زيتون عفرين، فهو الزيتون الكردي المطلوب والمرغوب، يفاخر الحلبيون بزيتهم وزيتونهم: كردي أصلي!

إلى جانب «قطرميزات» (مرطبان) الزيتون المتنوع الخلطات التي كانت فهيمة تحضرها إلى السجن، حملت ذات مرة خلطة فريدة، كانت خلطة خيطان صوف! يصعب أن يتخيل المرء فلاحة دون أن تكتسح ذاكرته حديقة ملونة.

أما مع الفلاحات الكرديات، فالحديقة تمتد وتتكاثر كمرج لا ينتهي. عجيب أمر هذا الاحتفال الحار بالألوان الواضحة القوية والاعتزاز بها: يقول الكرد هذه ألواننا، فلا يسعك إلا أن تذعن! أليسوا هم أكثر من حفظها ورعاها وتجول فيها ومعها، يلبسونها ويأكلونها وينامون عليها وتوشى بها مساندهم وفرشهم وبسطهم وسجاداتهم المعلقة على الحيطان وأواني طبخهم وفساتين رقصاتهم وحتى سراويل شبابهم. وها هي خلطة فهيمة البهية الألوان، المكونة من خيطان بضع كنزات صوفية مهترئة تناوب عليها أولادها، نسلتها وأعادت لفها على شكل كرات صغيرة معقودة الخيطان، حيث العقدات هي الذاكرة المجسدة لمواضع الثقوب والعطب في أجساد الكنزات الفانيات، هذه الكرات المعقّدة أربكت الشرطي المسؤول عن التفتيش، فما كان منه إلا أن هجم عليها واحدة اثر أخرى ليفّك طلاسمها، آخذاً بنسلها وسط احتجاج «دلشان» وشتائمها بالكردي، مأخوذاً بلعب دور المحقق العبقري في الكشف عما تهربه الأمهات داخل الكرات. اختلطت الخيوط ببعضها على أرضية ممر التفتيش، وانهمك بقية الشرطة في مناوشة «دلشان».

وبعضهم كانوا يدفعون فهيمة بأيديهم خارج بوابة السجن، ما أثار قهر السجينات حتى فاضت مرارة قلوبهن فاختنقت الكلمات واحتقنت العيون مخلّفة صمتاً واجماً جلاه صوت فهيمة الذي تردّد صداه ابتسامة أشرقت على وجه «دلشان». كانت فهيمة تهدئ روع الجميع: « بينما تستعيدون فرز الخيوط ولفّها ستنقضي أيام كثيرة من سجنكم دون أن تشعروا بوطأتها». كانت فهيمة تعرف حكمة الجدة «بنلوب» دون أن تقرأها أو تسمعها: حياكة الصوف لتمرير ثقل الوقت وهمومه وليست عملاً بحد ذاته!

زكية حفيدة الزيتون

كجذع زيتونة راسخ، لم يزل جسد زكية يقاوم مرض السرطان لكن لقاء زكية بالسرطان يعود إلى عقود سابقة، حين داهمها سرطان الاستبداد وخطف زوجها إلى المعتقل مخلفاً وراءه طفلين، وزكية الصبية الجميلة، التي كان عليها أن تحمل عواقب معارضته السلطات السورية العربية، جنباً إلى جنب مع معضلتها الأكبر: أن ترتق جرح الكرامة «القومية» وتبلسمه دون كلل، الجرح الذي تسبب به زوجها حين اختار الانتماء إلى حزب عربي معارض، «وكأن ليس لدى الكرد ما يكفي من الأحزاب ويفيض لتتسع لحضرته وأمثاله»!

كتومة، في رأسها تغلي وتصطرع مئات الأفكار والهواجس، لها جسد لا يهدأ عن السعي وراء شيء ما، تتوقف الزكية برهة كلما التقطت كلمة عربية، تريد أن تفهم كل شيء دفعة واحدة، تقرأ حركات الشفاه ولغة الإشارة، تتمعن في السلوك والطعام واللباس بنفس اللهفة التي تسعى فيها إلى زيارة زوجها ومتابعة أخبار السياسة والأحزاب وهدهدة ولديها، لا أحد يعرف متى وأين تعلمت زكية اللغة العربية التي فتحت شهيتها على تعلم كتابة الكردية والتهام كل من اللغتين التركية والانكليزية، كيف أسست بيتها الصغير وعملها وكم زرعت من غراس الحب والبهجة والعمل والحكمة.

كان زمنها الذي انفتح فجأة كهاوية سحيقة، لكنها بعدالة روحها وعنادها «الكردي» استطاعت أن تلاعب أكثر من هاوية، أن تركض على حوافها دون أن تقع.

بعد خروج زوجها من السجن ومحاولتهما الهرب من سورية عبر تركيا، اصطادهما الأمن التركي ووضعهما (مع أطفالهما) في مخيم لسنوات أربع كان لهما منها ما يقصم ظهر الصبر. هي الآن في (كندا) تصارع المرض جولة بعد أخرى، لا يشغل بالها غير حلمها بالثورة وبسورية حرة: بين شوطي علاج تصرخ في المظاهرات والاعتصامات، وحالما تستفيق من التخدير تسأل عن أخبار حمص والغوطة كما عن أخبار عامودا وكوباني، رافعة شارة النصر في وجه كل السرطانات. كيف لا؟ وهي أم «هيفي» (الأمل) ابنتها البكر، اللقب الذي تمسكت به رغم انجابها لصبيين آخريين، لكنها مع زوجها حافظا على لقب أم هيفي وأبو هيفي على غير عادة كل من حولهم كرداً وعرباً.

الكرديات والقرابين

قربانك! بهذا السخاء والافتداء تمنح الكردية نفسها بالتساوي ودون تمييز، للرجل أباً وزوجاً وأخاً، لخرافها وشجراتها وأطفالها ودجاجاتها وصباحاتها، وبهذا النداء الخاشع: قربانك أنا يا الله، تبدأ رحلة مناجاتها اليومية (لله) حبيبها وصديقها ومغيثها، الذي لا يتوقف عن امتحان صبرها وايمانها وعنادها، دون أن تجرؤ على مفاتحته بشأن الحلم الكبير: كم من القرابين يلزم يا الله لينعم الكرد بقسط من وطن؟!

الكردية التي خبرت جور الأوطان وعسفها، تدرك أن كردستان في الحلم أشهى، وربما لهذا السبب تمضي مدافعة عن حياتها البائسة وحلمها النضر بالعناد نفسه والدأب ذاته غير عابئة بالكاميرات المهووسة بصور الموت وصناعة الأوهام.

السفير العربي

22/10/2014

لقراءة المقال الأصلي اضغط هنا 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *