تعليقاً على المناظرة الأخيرة بين مارين لوبن وماكرون العام الماضي، قال أحد الصحافيين: “لم ينقص المناظرة إلا قفازات الملاكمة”.
حمّلت لوبن مسؤولية معظم الأوضاع المتردية في فرنسا إلى اللاجئين والسياسات الحكومية المتساهلة معهم، وطالبت بطرد قسم منهم والتوقف عن استقبال المزيد، وحرمانهم من حقوق الصحة والتعليم المجانيين وحصرها بالمواطنين الفرنسيين. وللأمانة لم تذكر لوبن السوريين، لكنها كانت ساخطة على الجميع والأجانب عموماً، ودعت إلى خروج فرنسا من الاتحاد الأوربي، معللّة كل مطالبها بأن الفرنسيين “يشعرون بأن هويتهم وسيادتهم تُنتزع منهم”.
لم يكسب ماكرون المناظرة فحسب، بل فاز بالرئاسة أيضاً. لكنه في خطاب التنصيب أكد “يجب التغلب على الانقسامات والتمزق في مجتمعنا”، وأشار في أكثر من مناسبة إلى تفشّي التهرب الضريبي واستغلال النفوذ والاثراء غير المشروع في المستويات العليا، وكان قد قطع في برنامجه الانتخابي ستين وعداً بينهم: تخفيض النفقات العامة، كما الضرائب على الشركات (كانت لوبن قد اتهمته بدعم العولمة المتوحشة)، ترميم مليون منزل، خفض البطالة، توظيف عشرة آلاف شرطي جديد، وزيادة خمسة عشر ألف مكان في السجون.
هذه إشارات سريعة إلى طبيعة الأزمة التي تواجه الجمهورية الفرنسية، وتجد تعبيراتها في الشارع حيث الاضرابات ضد قانون العمل مازالت مستمرة منذ عامين، كما اضرابات واعتصامات الجامعات وعمال السكك الحديدية، وأقربها اعتصامات مارسيليا إثر انهيار منزل أودى بحياة ثمانية أشخاص، وآخرها “الغضب الأسود” حيث عطّلت جماعات “الستر الصفراء” حركة السير في معظم المدن احتجاجاً على رفع الضريبة على الوقود وغلاء المعيشة.
في كل موجة احتجاجات تقرأ وتسمع الكثير من التعليقات فتتوقع أنها بداية لثورة تشبه ثورة مايو 1968، الأمر الذي يظهر عمق الأزمات التي تواجهها فرنسا.
مع من يجب أن يندمج اللاجئون؟
كما أن المجتمع الفرنسي ليس كتلة واحدة كذلك هم اللاجئون ليسوا مجموعة موحدة. ومن الطبيعي أن يتوزعوا في أهوائهم وأفعالهم وانحيازاتهم وفق مصالحهم وثقافاتهم المختلفة وطموحاتهم، وهذا ما يحدث فعلاً، فاللاجئون أصحاب الأموال والأعمال والسياسة يندمجون بسرعة في مجالاتهم، بسبب العولمة التي تيسّر الاندماج، وكذلك أهل الموضة والأزياء واليوغا والاتيكيت ومحبو الحيوانات وجدوا ضالتهم في المجتمع الجديد. حتى لوبن لها جمهور من اللاجئين الأقدم الذين ذهبوا أبعد مما يتخيله دعاة الاندماج أنفسهم، في حين تجد أكثرية اللاجئين مندمجة موضوعياً مع غالبية الذين يعانون من أزمات البلد من الفرنسيين (هناك أفراد وجمعيات من اللاجئين وبينهم سوريين شاركوا في الاحتجاجات).
من المعروف في علوم الاجتماع أن كل مظاهر النزق والتهرب والتكاسل والانطواء والتشكي تندرج ضمن إطار الاحتجاج السلبي، الأمر الذي يحتمل توافره بين اللاجئين الذين لهم الحق بفترة حداد على ما فقدوا، وبوقت واجراءات ملائمة تهيؤهم للتعرف على بيئتهم الجديدة والتكيف معها.
فرنسا مثلاً تستقبل هجرات ولاجئين منذ خمسينيات القرن الماضي، ما يضعها في موقع المسؤولية والمساءلة بخصوص اللاجئين وقضية الاندماج، في الوقت الذي تتوانى فيه الحكومات المتعاقبة عن الالتحاق بمثيلاتها الأوربيات حتى في مجال تعليم اللغة للاجئين.
طفل، كلب، كتاب، وجمعيات
بعد الكلمات المفتاحية ذات التواتر الأسبوعي، كيف ستقضي عطلة نهاية الأسبوع؟ وقرينتها الموسمية: أين ستمضي العطلة الصيفية؟ تحتل المرتبة الأولى في التداول اليومي كلمات سحرية تكاد تكون “مقدسة” مثل: طفل، كلب، كتاب، تطوع وجمعيات ونشاطات وفعاليات..
توحي معظم الاهتمامات المذكورة بميل المجتمع الفرنسي إلى التعاطي مع العالم الخارجي بمختلف مكوناته وموجوداته. ولكن مهلاً، ثمة رابط بين الاهتمامات السابقة يمكن لحدس اللاجئ/ة التقاطه وتلمسه كإنسان يحاول فهم الثقافة المطلوب الاندماج فيها. هذا الرابط يشكل الجذر الأساس للفردية، أنا أولاً وأساساً. ولكن أنا تحتاج إلى آخرين لتكسب رضى أكبر، وبما أن الآخرين مصدر محتمل للمتاعب والالتزامات وتقييد الأنا، يمكن أن يكون الحل الأمثل المتاح أمام الأنا اختيار العناصر الأكثر مرونة وقابلية للتطويع والتكيف نظراً لحاجتها للحماية والرعاية. رغم ما تفرضه هذه العناصر من التزامات على الأنا، إلا أنها تحفظ لها حق السيطرة والتحكم واحتكار الكلمة الأخيرة.
العلاقة مع اللاجئ هي من فصيلة العلاقة مع الطفل، الكلب، الكتاب. علاقة قائمة على هرمية تحفظ المسافة بين المانح والممنوح له، بين رئاسة المنظمة والمتطوعين وبين المستفيدين من الخدمة المشروطة، ولا يبقى للاجئ الذي أنشئت المنظمة باسمه ولأجله أكثر من ابداء ملاحظة وتمني.
لا أحد يستطيع إنكار ما تفعله منظمات المجتمع المدني من سدّ الثغرات المؤسسات الحكومية بتقديم المساعدات العاجلة للأفراد والعائلات، لكنها تنحو باتجاه خطاب يحتكر صوت اللاجئين وإراداتهم المتنوعة، ويعمل على تنميطها وقولبتها.
الانسان يسكن ثقافة أكثر مما يسكن أرضاً
هذه الملاحظة اللماحة لفوكو ما تزال تفعل فعلها، حيث يعيش الفرنسيون في ثقافتهم وتاريخ ثورتهم الملهمة وآدابهم وفلسفتهم وفنونهم أكثر مما يعيشون واقعهم الراهن، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتفاعل والانفتاح على الآخر. مع الأخذ بالاعتبار أن الثقافة ليست معطى جامداً، لكنه بالتأكيد ليس سهل التأثر.
مثل نهر، أضيق من فضاء
في سوريا، عندما كنت في السجن، تماهيت مع شجرة. مثلها كانت خياراتي وقدراتي وحياتي كلها مهدّدة بالاندثار ما لم أتشبث بجذوري وأغذي كياني بنسغ الأمل والتطلع خارج الجدران لأبقى مورقة مثمرة.
في فرنسا، حيث البلاد الغزيرة المتنوعة طبيعة وتاريخاً وحضارة، وجدتني أتماهى بنهر “المارن” الذي يمرّ في بلدتي. مثله أسير وأجري وأتدفق، أصفو وأتعكر وأفيض، أتذمر وأتمرد وأنحت جانبي لأوسع مجراي، لكني أبقى مقيدّة إلى ضفتين، محكومة بمنبع ومصب وسرير.
في فرنسا، لم أعد شجرة، صرت نهراً دائم الجريان، تتبدّد سنواتي وأنا أسعى لملاقاة قدري: أن أندمج وأذوب في النهر الأكبر، نهر السين.
من محنة الأقدار تولد القدرات، هذا ما أعرفه وما خبرته، ولكن لم أكتشفه بعد كلاجئة تريد أن تتفاعل وتتشارك فضاء الحرية الذي فتحته الثورة الفرنسية العظيمة للجميع.
12/12/2018
أبواب
لقراءة المقال الأصل اضغط/ي هنا