“لا تعتقلوني، اقتلوني كما قتلتم أطفال حمص”
هذا ما كتبته سعاد على “كرتونة” صغيرة رفعتها في شارع تل أبيض التجاري في الرقة، وسارت بها عكس اتجاه السير ليتمكن الجميع من قراءتها، ما أذهل أهل المدينة الصامتة نهاراً والتي تتقلب على جمر انتظار قدوم الليل لتخرج في مظاهرات طيّارة (سريعة) خشية بطش نظام المجازر، الذي كان آخرها مجزرة “كرم الزيتون” في حمص والتي أشعلت ارادة سعاد في التحدي السافر، على الضد مما تبتغيه الوحشية من تعميم الرعب وسحق الارادة واجتثاث أي شعور بالتضامن والتعاطف، حيث الثمن الفاحش ظاهر للعيان بدلالة المجازر المستمرة!
لم تكن فكرة الكتابة على “كرتونة” من ابتكار سعاد، فقد سبقها إليها آخرون، لكنها وجدت في الكرتونة وسيلة تعبير ملائمة لها (وهي معلمة مدرسة) ولطبعها وطريقتها الخاصة في التعبير عن نفسها بأسلوبها الواضح البسيط المختصر، فواظبت على استثمار هذه الوسيلة في ثورتها على النظام وعلى داعش فيما بعد.
“لا لظلم الظالم، لا لتسلط الحاكم، لا للتكفيرــ نعم للتفكير، لا تحدثني عن الدين ــ دعني أراه في تصرفاتك وسلوكك، المساجد والكنائس بيوت لعبادة الله، الحرية لثورتنا ولكل مخطوف ومعتقل”…كانت هذه أبرز المحطات التي توقفت عندها كرتونات سعاد، حيث تلخص تعقيدات السياسة وتشابكات الأوضاع والآراء بموقف مبدئي لا لبس فيه ينبع من انحيازها العميق والحازم لقيم الحرية والكرامة والعدالة.
أمام النظام وفي وجه داعش، كانت سعاد السباقة لتجسيد ضمير أهل مدينة الرقة وتوقهم إلى الثورة ورفض الذل وكسر القيود، وعندما بدأ داعش بملاحقتها وخطف أصدقاءها ورفاق نضالها، ومنهم فراس الحاج صالح زوج أختها رمال، والدكتور اسماعيل الحامض وغيرهم، اضطرت إلى الخروج إلى تركيا، ومن هناك لم تكتفِ بالكرتونونات فقط، ولم تطالب بالإفراج عن شركائها في العمل والنضال وحسب، بل أعلنت اضراباً عن الطعام (مع أصدقائها) الذين اعتصموا هذه المرة لفك الحصار عن أهل الوعر (في حمص) وسكان المعضمية (في ريف دمشق) الذين أخضعوا للتجويع بهدف التركيع.
سعاد لوحدها أو مع أخريات وآخرين شاركت بالعديد من النشاطات والأعمال، فساهمت في صنع المشغولات اليدوية وبيعها لتقديم الدعم للعائلات المتروكة دون أي دخل بعد “تحرير” الرقة، حيث توقف النظام عن دفع رواتب الموظفين لخمسة أشهر متتالية، وشاركت في اجتماعات المجلس البلدي المحلي، وكانت حاضرة وسباقة في كل ما يتعلق بالنشاط والعمل، لا تريد الخوض في النقاشات ولا تطيق التفاصيل والصغائر فقضيتها واضحة ومحددة: “أريد أن أكون بين الناس، أن أفهمهم وأفعل شيئاً لنا جميعاً” هكذا تقول وهي المنخرطة بكامل ارادتها وروحها وجسدها بمواجهة أعتى دولتين استبدادين، ناهيك عن مجازفتها بالخروج عن تقاليد البيئة المحافظة المحيطة بها.
ــ من أين تأتيك الشجاعة؟ أسألها، ترّد بتلقائية:
ــ من أطفال درعا، من الأمهات اللواتي أعرفهن وهنّ يدفعن أولادهن للمشاركة في التظاهرات ومواصلة الاحتجاج، من القهر الذي يعاني منه أولاد بلدي وأعرفه وأسمعه وأحسّه، ومن كل الذي جرى ويجري في العالم وفي سورية، من دم الشهداء والأبرياء من البيوت المهدمة والناس المشردين من أمهات المعتقلين من الذين يموتون تحت التعذيب والمخطوفين الذين لا ندري عنهم شيء ومن الأب باولو الذي التقيته وكان صائماً تضامناً واحتراماً لآلام السوريين!
ــ هل يفيد النضال السلمي في وقت يباد فيه البشر والحجر؟ ولماذا كنت وحيدة في الاحتجاج؟
ــ هذا كل ما لدي وكل ما أستطيعه، وكان مفيداً أحياناً، لقد أسمعت صوتي وعبرت عن موقفي وكنت بجانب أهلي وأبناء بلدي، لم أكن لوحدي، كثر كانوا معي بقلوبهم وعيونهم وخوفهم عليّ وفرحهم بما أفعله. وكنت معهم في مظاهرات واحتجاجات مشتركة، من استطاع خرج ومن لم يخرج لديه مبرراته. علينا ألا نلوم الناس وألا نحاسبهم، المهم ألا نصمت، الأهم أن نعثر على وسيلة للتعبير، أي وسيلة متوفرة وأن نستخدمها دون انتظار، فالإمكانات ضعيفة والصعوبات كثيرة خاصة ونحن تحت القصف والاعتداء الدائمين.
ــ لمَ اختارتك منظمة “هومو هوميني” (محرومون) التشيكية غير الحكومية لتمنحك جائزتها لهذا العام؟
ببساطتها المعهودة وتواضعها تجيب:
ــ لا أعرف بالضبط، اتصلوا بي وأخبروني عن ترشيحي للجائزة، وقلت لهم: أنا لم أفعل شيئاً أستحق عليه جائزة، هناك الكثير من المناضلين والمناضلات السوريات يستحقون التكريم والاعتراف أكثر مني، خاصة أنهم مازالوا يدفعون ثمن مواقفهم في المعتقلات، أو دفعوها بالموت تحت التعذيب هناك أطباء ومسعفين ومتطوعين يساعدون الجرحى والمصابين أو مازالوا مخطوفين وملاحقين… لكنهم عادوا وأخبروني أني فزت بالجائزة من بين عدد من المرشحين تبعاً لمعايير عمل المنظمة.
من جهته “سيمون بانيك” مدير منظمة “هومو هوميني” أعلن أن المنظمة تمنح جائزتها لسعاد نوفل لا لشجاعتها في اظهار معارضتها علناً للسلوك الإجرامي من جانب الدولة الإسلامية أمام مقراتها في الرقة وحسب، بل لاحتجاجها طويل الأجل وغير العنفي على واحد من أشد أنظمة العالم وحشية، نظام الأسد في سورية، مضيفاً نريد عبر هذه الجائزة أن نعبر عن دعمنا لكثير من السوريين ممن يعارضون بفاعلية ودون عنف الإرهاب والاستبداد مهما كان مصدرهما”. وسبق أن منحت المنظمة جائزتها لأطباء دمشق الذين عالجوا في السرّ جرحى القصف على المدن الثائرة، حيث يمنع النظام معالجتهم تحت طائلة الاعتقال والقتل!
سعاد اللاجئة في هولندا حالياً، تعيش حياتها على ايقاع الحدث اليومي السوري، بكل تفاصيله وآلامه، تتواصل مع أصدقائها ومعارفها، تنشر صور المدن المنكوبة والبلدات المحاصرة، ينبض قلبها لمظاهرة وتطالب بمعتقل وتعزي بشهيد وتبوح بشوق قدميها للتظاهر والسير في شوارع مدينتها، وشهوة يديها لاحتضان الأمهات المعذبات بالفقد والحرمان، ولا تدع صديقاً أو صديقة دون أن تطمئن عليه أو تواسيه، وإذ تحتضن صورة ابن أخيها أو تستسلم لذكرى جميلة تؤنب نفسها: “أخجل أن أفرح لوحدي، وإن لم يراني سواي”! هكذا تكتب على صفحتها في الفيس بوك. وهكذا تعود إلى أوجاع أهل بلدها لتبدأ لقاءها مع إذاعة “أخبار الآن” بصوت شجي مفعم بالإرادة والتحدي يغني للسوريين ومعهم ” يمّا مويل الهوا يمّا مويليا.. ضرب الخناجر ولا حكم النذل بيّا”
ــ أسألها بخفة ولهفة: ما موقف زوجك تجاه ما تفعلين؟! تجيب باستحياء مرح:
ــ لست متزوجة، “لم أدخل دنيا بعد” ! هكذا يقولون بالتعبير الشعبي الدارج.
أداعبها ضاحكة: لقد دخلت الدنيا من أوسع أبوابها: باب الحرية، الحياة تأتي تالياً…
شبكة المرأة السورية