تتحدث آخر الأرقام عن أربعة مليارات ونصف المليار من الإعجابات (اللايكات) اليومية التي يضعها مشتركو الفايسبوك على منشورات بعضهم البعض. ما يوحي بأن العالم ليس “قرية صغيرة” فقط، بل قرية معجبة ببعضها ومتحابة أيضاً!
إذا كان التواصل يقرّب بين الناس، فلمَ تسود الكراهية القاتلة إذن؟ ولمَ ينفق العالم المتمدن تريليون ونصف التريليون من الدورلات على التسلح؟
لا يمكن إنكار فضائل الليبرالية (الحرية الرأسمالية)، التي عممت منتجاتها التقنية والعلمية والفكرية على البشرية في سياق بسط سيطرتها على العالم بما يتوافق مع مصالحها في توسيع أسواقها وتطويع القوانين والأنظمة الاقتصادية، وما يتبعها من بنى اجتماعية وثقافية استهلاكية تحديداً، الأمر الذي يمثل الجانب الإيجابي في العولمة، ما حدا باتجاهات يسارية، بيئية ومناهضة للآثار السلبية للعولمة، بتصور إمكانية مواكبة العولمة والاكتفاء بتقليم مخالبها عبر معارضة سياساتها العنفية والظالمة بحق الشعوب والطبقات الفقيرة، التي تتعرض مكتسباتها لتهديدات تغّول العولمة عبر وصفات مؤسسات دولية، تخضع لسيطرة الشركات المتعددة الجنسيات، وتملي عليها سياساتها مثل: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية.
العولمة التي غيرت العالم ووصلت إلى صورتها الجديدة (النيوليبرالية) اصطدمت بعقبات، منها أن العالم مختلف وبعضه متخلّف عن إمكاناتها وسرعة تحولاتها، وعن نهمها في ابتلاع الخيرات والموارد البشرية والمادية المتوافرة، بما يجعلها أكثر احتكاراً وتحكماً. وقد أوجدت منظومة مفاهيم ومصطلحات عامة معوّمة تخفي وراءها جشعها، فمن الحرية وصلت إلى الحرية الجديدة، ومن الحداثة ذهبت لما بعد الحداثة، ومازال العالم بسواده الأعظم يرزح تحت أثقال العبودية والماضوية، ما يضعها أمام معضلة إمكانية استقرار هيمنتها، وما يجعلها مرة بعد أخرى تواجه هذه العقبات بالعنف العاري أو المتستر وراء فرض قيود وشروط تواصل مجحفة.
لا يخفى أن غالبية الاختراعات العلمية جرى تحفيزها بدوافع وغايات عسكرية، من الراديو إلى الكاميرا (سينما وتلفزيون) إلى الإنترنيت، ما يمنحها بُعدين متتفارقين: الأول بُعد الهيمنة، نظراً لتبعيتها لِمَن يملكها ويدفع من أجل تعميمها، والثاني: بُعد الاستقلالية النسبية المتحصل بالتدريج، جراء واقع أن البشر المستهلكين لوسائل الاتصال لابد أن يطبعوها بطابعهم المتنوع والمتعدد والذي لا يمكن السيطرة عليه بصورة تامة.
تدين البشرية لثورة الاتصالات بنشر المعارف على نطاق واسع وبسرعات كبيرة وأسعار زهيدة نسبياً، وخلق إمكانيات وفرص “التبادل” الاقتصادي ــ الاجتماعي ــ الثقافي بين سكان الأرض.
تمكنت أعداد متزايدة من الناس من الإطلاع على نظم وأنماط حياة ومعتقدات شعوب أخرى ومجموعات بشرية، وحتى أفراد لديهم آلام وآمال متباينة وأحياناً مشتركة، ما ساهم لاحقاً في إمكانية تنظيم تواصل جماعي مثمر (ندوات ومؤتمرات ودورات)، ناهيك عن التواصل الفردي (التعليم الافتراضي، فرص العمل، الترفيه). لقد كانت النساء الفئة الأكثر تعطشاً لمعرفة العالم ومنتجاته المعرفية والقانونية والحقوقية، وأنماط حياته ومدى مشاركة المرأة في الحياة العامة، وقدراتها على التنظيم والعمل والمطالبة بتحسين شروط وجودها، كون النساء يشكلن الفئة الأكثر حرماناً من حرية الحركة والاختلاط والسفر والتعليم، بدواع دينية أو تقليدية تبقيهن قيد الخدمة المنزلية والعزلة الاجتماعية.
يعتمد العالم اليوم مفهوم التواصل والاتصال بدل مفهوم الإعلام، على اعتبار أن العالم الحديث مبني على التفاعل وتبادل الاتصالات! على حين يعبّر الواقع الفعلي عن مستوى الهيمنة الذي تتمتع به سلطات النيوليبرالية، التي تحتكر سائر مجالات النشاط البشري، حيث تحتكر الشركات المتعددة الجنسيات النشاط الاقتصادي ولا تسمح إلا ببعض التبادل الهامشي، الذي تتخلى عنه لوكلائها في مناطق بعيدة من العالم أو بلدان تمتلك من الخصوصيات الثقافية والتعقيدات القانونية، ما يجعلها تكتفي بصيغ من المشاركة في المنافع عبر منح اسم الشركة أو رعاية نشاطها أو المساهمة معها..إلخ.
نادت منظمات حقوق الإنسان واليونسكو ومنظمات غير حكومية منها مراسلون بلا حدود وسواها، بحرية تدفق المعلومات التي اعتبرتها شرطاً مؤسساً لحرية الرأي والتوجه:
حيث كشفت أنه رغم ثورة المعلومات إلا أن هناك عمالقة كبار يتحكمون بكمية المعلومات التي تضخ للعالم ونوعها، والتي تختلف نسب توزعها بين بقاع شتى في العالم، كما تقّل حتماً كلما اتجهنا نحو فضاءات بلدان يتحكم فيها الاستبداد ويمنع وصول المعلومة، سواء عبر الامتناع عن توفير البنية التحتية اللازمة، أو مراقبة المواقع وحجبها، أو اعتقال وملاحقة الكتاب والصحفيين على الشبكة العنكبوتية… الأمر الذي لا يحدث في شرق العالم وجنوبه فقط، بل في غربه وشماله أيضاً، ما أدى إلى ظهور أحزاب القراصنة، التي تعتبر أحد أهم أهدافها: تعميم المعرفة وكشف الحقائق التي يتستر عليها السياسيون والديبلوماسيون بدواعي أمنية وعسكرية واستراتيجية، وتخفيف اعتبارات حقوق الملكية للوثائق والمنشورات ذات النفع العام. وهي أحزاب فاعلة في كل من ألمانيا والسويد وغيرها، حيث استطاعت أن تحصل على تمثيل برلماني في أكثر من دولة.
يعاني العالم من فيض المعلومات، وليس من نقصها:
هكذا يرّد محتكرو المعلومات ووسائل الاتصال، ويرّدد وراءهم كل طغاة الدين والدنيا في محاولة لخنق الفضاء الذي بات يفتح عيون وعقول الناس وطموحاتها وأحلامها بالانعتاق والمطالبة بتغيير الأنظمة التي حولت حياتهم إلى سلسلة متراكبة من الأسوار المغلقة. ويبدو وجيهاً الحديث هنا عن فيض المعلومات، حيث أغرقت الثقافة الاستهلاكية العالم بمنتجاتها الفائضة فعلاً عن حاجة سواده الأعظم، فالشباب المتطلع إلى فرصة تعليم مقبولة وعمل يقيه شرّ العوز، وقطاعات كبيرة في مجتمعاتنا ليس لها همّ أبعد من تأمين اللقمة واللقاح لأطفالها، لا تعنيها أسواق البورصة والمال، ولا تشعر بحاجة لمعرفة أنواع فراء الثعالب ولا الموضة، الطبخ، رياضة الركمنجة، أسعار الوجبات في المطاعم السابحة فوق الماء، الرحلة إلى المريخ، أسعار مشاهد نجوم السينما، طرق معالجة الحيوانات المكتئبة أومسابقات جمال الشعر والأظافر والمؤخرات… كل هذه المعلومات فائضة عن الحاجة، بل تبدو معلومات مستفزة ومثيرة للنقمة على عالم باذخ معدوم الضمير، يبّذر موارده ويستنزفها، في حين يعيش معظمه على الكفاف، وما دون خط الفقر المدقع، إذ يعيش خمس سكان العالم على دخل أدنى من دولارين يومياً، وهو الحد الأدنى الذي يميز الفقر المدقع عن الفقر العادي الذي يتمتع به ربع سكان دول الاتحاد الأوربي (البلدان الاشتراكية سابقاً). على حين يحوز ا% من أثرياء العالم على ما يوازي حصة 99% من أخوتهم في الإنسانية، علماً أن حصة الـ 99% ليست متساوية من الدخل، حيث البشر غير متساويين (إلا نظرياً) في إمكانية الحصول على الثروة.
تقترح مفاهيم ما بعد الحداثة التركيز على الخصوصيات واحترامها، الأمر الذي ينطوي على إيجابيات الاعتراف بالآخر وحقوقه وحرياته. لكنها بالمقابل وتحت مسمى الخصوصيات تجزئ العالم وتقسمه إلى شعوب وحضارات وقوميات واثنيات وطوائف وقبائل وعشائر، وأخيراً إلى أفراد مستقلين معزولين لا رابط بينهم، سوى شبكات الاتصال التي توصل لهم الخدمات إلى بيوتهم حيث كانت، وبالمواصفات التي يريدون وفي الأوقات التي يفضلونها، المهم أن يبقوا مواطنين صالحين يدفعون الضرائب ويشاركون في الانتخابات، قابعين بقية أعمارهم وراء شاشات الاتصال، يبنون عالمهم الافتراضي الضيق المفهوم بالنسبة لهم، يختارون أصدقاء افتراضيين يشاركونهم مشاعرهم وانفعالاتهم ولغتهم، ويتبادلون الإعجاب والرضى.
هذه خلاصة التواصل الأكثر عمومية بين العالم وهي حقيقة تعاني منها شعوب ما بعد الحداثة بأكثر من صورة:
وفرة وسائل الاتصال وشحّ في التواصل، العزلة والسمنة والاكتئاب واللامبالاة تجاه الآخرين، انعدام الحماس للتفاعل مع المحيط والاستعاضة عن محاولة تغيير العالم بتغيير الأصدقاء والصورة الشخصية والحالة الانفعالية. ليختزل التواصل إلى مجموعات (شلل) متماثلة المزاج والاهتمامات، منغلقة على بعضها ومعزولة عما حولها، بالتالي من الطبيعي أن تكون شديدة التعلق والإعجاب بعالمها المتوّهم/ الافتراضي.
ورغم كل الإشارات السريعة سابقة الذكر، تبقى وسائل الاتصال الحديثة منتجاً بشرياً لا يخلو من المساوئ والمحاذير، لكنه ينطوي على الكثير من الإمكانات والفرص الثمينة التي يمكن استثمارها وتوظيفها بما يعزز الفهم والتفاهم والتضامن، والتعاون على تحديد المشكلات واستكشاف الممكنات، لإيجاد منافذ خلاص مواتية للغالبية المهمشة والمسحوقة، خاصة في ظل عالم يجري تقسيمه وتقطيع أوصاله بلا رحمة ودون توقف.
25/02/2015
سيدة سوريا
لقراءة المقال الأصلي اضغط هنا