مقالات رأي

أنا إنسان، درّة شعارات الثورة السورية وجوهرها

العفوية التي انطلقت بها الثورة السورية، وتأثرها بالثورات المشتعلة آنذاك انعكسا بشكل واضح على طبيعة شعاراتها، وإذ تشابهت الشعارات وتقاطعت مرات ومرات مع نظيراتها في ساحات تونس، مصر، ليبيا،البحرين، سورية، اليمن، إلاّ أنّ شعار «أنا إنسان ماني حيوان وهالعالم كلها متلي» الذي جاء كردّة فعل من الرجل السوري «محمد أحمد عبد الوهاب» وهو يتعرّض لتعذيب فظيع ومهين عبر دعسه بالأقدام وإذلاله بإجباره على تقبيل أحذية جلاديه من الشبيحة وإكراهه على ترديد كلام يمجّد «الرئيس» ويحقّر النفس والحرية والثورة. كان هذا الإعلان/ الهتاف الذي تردّد في أكثر من مناسبة وكُتب على جدران ولافتات، يفصح عن خصوصية الوضع السوري وفرادته التي اكتُشفت خلال الثورة وكشفت عبر مجرياتها الكثير عن المحيط والعالم.

نصيب الثورة السورية من الملاحظة والتحليل :

لم يكتب للثورة السورية، مثل نظيرتها المصرية مثلاً، أن تحظى بالملاحظة والتحليل لكثير من جوانبها المتعلقة بمنتجاتها وتعبيراتها فيما يخص الشعار والهتاف والخطاب والأغاني والغرافيتي والرسم وصولاً إلى الرقص وتنوعاته وسائر التعبيرات الجسدية والحركة والإيماء والتمثيل أيضاً (التمثيل العفوي خلال الاعتصامات). ففي كتابه «مصر الثورة وشعارات شبابها» الصادر صيف 2014 قدّم الباحث «نادر سراج» مع فريق عمل دراسة لسانية لعفوية التعبير تناولت بالتحليل (1700) شعار وهتاف ورسم، وخلصت إلى استنتاجات قيّمة فيما يخص الواقع المصري ومستوى الحراك فيه وتطلعاته..الخ. ما ينبّه إلى أهمية دراسات شبيهة خاصة بالوضع السوري سيّما أن الثورة السورية أطول مدى في الزمن وأكثر شمولاً في الجغرافيا وأشد راديكالية في شتى مظاهرها.

ورغم ذلك يُلاحظ قلة الشعارات والهتافات السورية الصرف إن جاز التعبير، على العكس، ثمة ميل إلى استعارة شعارات وتبنيها (بفعل العدوى الثورية) دون تبّصر، وثمة ميل موازي لشعارات وكتابات تنّم عن رومانسية ثورية مفارقة للتطورات الساخنة المتلاحقة التي حكمت مسار الثورة، على حين تبقى التماعات كفر نبل وبنّش وعامودا وحمص ودرعا أكثر تعبيراً عن روح الثورة نظراً لانخراطها المبكر والمستمر في الثورة وقدرتها على تجسيد روحها والتقاط نبضها.

مثل معظم شعارات الحراك الاجتماعي والسياسي العام، ركزت الشعارات على الجامع والمشترك بين الناس، حيث خاطبت الشعب وتحدثت باسمه: الشعب السوري ما بينذل، واحد واحد واحد الشعب السوري واحد. ورغم ما نال هذه الشعارات من انتقادات وتفّكه لا يخلو من السخرية المرّة أو الشماتة لاحقاً، إلا أنه من الطبيعي أن تحمل الشعارات طابع العمومية والرغبة والتحشيد والتركيز على الأهداف والآمال المفترضة.

الثورة الكاشفة:

مع الوقت، اكتشف السوريون أنهم كانوا يعيشون في مملكة الصمت والغياب، ليس عن العالم فحسب، بل عن بعضهم وعن أنفسهم أيضاً. وكان حالهم أشبه بحال «أهل الكهف» يتلمسون طريقهم وذواتهم والعالم من حولهم أول بأول، ليجدوا أن لا شيء بحوزتهم يعينهم على مواجهة واقعهم (ما لنا غيرك يا الله)، غير إرادتهم ووعيهم الذي يتشكل بالدم والنار وفي ظل هيمنة معارضة مهلهلة ومجتمع دولي عاجز ومتردد وتكالب مصالح وحسابات إقليمية معادية للثورات والشعوب.

لم تكن صورة «محمد عبد الوهاب» وقبلها مشهد «أحمد البياسي» مع بعض المعارضين من قرية البياضة وهم يتعرضون للضرب والسحل والدعس على الرأس والدبك البهيمي فوق الأضلاع وتلقيم البوط في الفم والسخرية والإهانات وكل البذاءات المنحطة التي يمكن أن تتفتق عنها نفسيات مريضة وعقول وضيعة، لم تكن هذه الصور وأمثالها جديدة في الواقع السوري، فتفاصيل التعذيب في السجون (القديمة منها والراهنة التي تشتغل بمنهجية التعذيب حتى الموت) كانت أفظع مما يمكن تخيله. لكن الفارق الحاسم هنا: أن يتم الإعلان عن التعذيب، إشهاره وتصويره ونشره واستعراضه في تحدي سافر للضحايا وذويهم ومناصريهم والمتضامنين معهم، بل وللعالم قاطبة، العالم الذي يشترك فيه النظام وشبيحته بميثاق حقوق الإنسان. من هنا تأتي أهمية صرخة السوري: أنا إنسان، وهالعالم كلها مثلي! على أنها اكتشاف ذاتي مختلف عما تقوله المحفوظات والاتفاقيات والمعاهدات التي تحولت كلاماً تجتره الألسن لعهود، اكتشاف ذاتي فردي (أنا) وغيري في آن (المساواة، العالم كلها مثلي).

لنتأمل المشهد من جديد: يقول الشبيحة بتشفي وانتقام: بدكن حرية؟!

يجيب (عبد الوهاب) أنا إنسان.

في هذا الرّد التلقائي تتجسد أصالة المعنى: بصرف النظر عما نريد، وهل هي ثورة شعبية أم مؤامرة كونية وحرب تقسيم امبريالية، وبصرف النظر عن أطماع الدول ومخططات التقسيم وعن كل شيء يتم سوقه ضد الثورة بغية اخمادها، وسواء كنت من «حثالة» البشر أو من الأرياف، أو خرجت من الجامع أم من الجامعة،هنا حقيقة واضحة لا لبس فيها: أنا إنسان. هذا خطاب محلي/ أممي، شعار بسيط مفهوم وتأسيسي، على اعتبار أن لا حريات ولا ديمقراطية ولا تنمية ولا مواطنة ولا حياة تالياً دون إنسان يحظى بحقوقه.

التذكير بحقوق الإنسان واكتشافها ذاتياً والتأكيد عليها، معطى يؤشر على اتجاهين، مثلما يُعرف الشمال بتحديد الجنوب في البوصلة، هنا يؤشر على الطغيان ووحشيته، كما يعّرف بمسؤولية رعاة حقوق الإنسان: المجتمع الدولي بمنظماته وهيئاته الرسمية وغير الرسمية ورأيه العام وأفراده جميعاً.

الهَول الذي فضحته الثورة السورية، المتمثل في هشاشة الالتزام الدولي تجاه الإنسان وحقوقه، والتمييز الجائر بين إنسان وإنسان، بين إنسان (الغرب)، وإنسان بقية العالم (المشرق خاصة باستثناء إسرائيل)، بين الإنسان الخاضع والإنسان المُتمرد (اعتصامات وول ستريت وساحة تقسيم التركية)، يعيد طرح القضية من جديد، قضية تعريف الإنسان وحقوقه ومساواته أينما وُجد، والضمانات الواقعية الفعالة للدفاع عنه في كل زمان ومكان.

عودة إلى الواقع السوري:

في مقولة أنا إنسان، عودة إلى الواقع السوري المشخص والعياني بواقعية مباشرة لا تحتمل التباس معاني كبيرة غامضة أو محل شك أو رفض ربما (نحن شعب، نحن أمة اسلامية، نحن شعب عربي، أم شعب سوري قيد التشكل، نحن طوائف وعشائر واثنيات، نريد تقسيم، انفصال، استقلال ذاتي، حرية، ديمقراطية)، كما لا توافق على ترّفع وتعالٍ عما هو أبسط حقوق الإنسان (الشعب السوري مو جوعان).

جملة أنا إنسان الاسمية، المبتدأ (أنا) واضح ومحدد وهو الأصل والغاية، والخبر (إنسان) هو اكتشاف مدخل وطريق إلى الوجود عبر الاجتماع العام والتفاعل والتشارك معه، ما أفضى إلى شعارات أخرى (الشعب يطالب بالحماية الدولية)، حين اعتقد السوريون أنه لا يمكن للمجتمع الدولي أن يتخاذل عن مسؤولياته والتزاماته المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة ومجلس الأمن وهي تسمح له بالتدخل ليس فقط في حالات الحرب، وإنما قبلاً في التبكير بحّل النزاعات والأزمات والحدّ من امكانيات حدوثها، الأمر الذي فعل عكسه تماماً عبر دعمه المستمر لكل الأنظمة الاستبدادية وتغذيته للنزاعات ومدّها بشتى صنوف الأسلحة. ورغم ذلك يبقى شعار: أنا إنسان، أساسياً لأنه هنا لا يخاطب الحكومات والهيئات الرسمية، وإنما يتوجه إلى البشرية عامة مذكراً اياها بعهودها.

شرعة حقوق الإنسان:

في شرعة حقوق الإنسان، تمت مراعاة مختلف جوانب الحياة التي تضمن حرية الإنسان وحقوقه: حق الحياة، التعليم، العمل، الصحة، السكن، الرعاية الاجتماعية، المساواة الحقوقية والقانونية بين الرجال والنساء، حق الطفل، المقاضاة..الخ.

وأكدت المادة الثانية من الشرعة:” لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، دون أية تفرقة بين الرجال والنساء، وفضلاً عما تقدم فلن يكون هناك أي تمييز أساسه الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي لبلد أو البقعة التي ينتمي إليها الفرد سواء كان هذا البلد أو تلك البقعة مستقلاً أو تحت الوصاية أو غير متمتع بالحكم الذاتي أو كانت سيادته خاضعة لأي قيد من القيود”

بل وأعلنت المادة 28 من الشرعة بوضوح:» لكل فرد الحق في التمتع بنظام اجتماعي دولي تتحقق بمقتضاه الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الإعلان تحققاً تاماً».

النصوص تشرح نفسها هنا، ولها استطالات وتتمات ولواحق تجسدت في هيئات ومنظمات دولية وهياكل واتفاقيات برهنت فشلها في الحد من النزاعات والحروب بمختلف أنواعها، وهاهي تثبت اهتراءها بنيران الحرب المستمرة والمستعرة يومياً في سورية منذ بداية الثورة، ما يحمل البحث عن الأسباب الرئيسية لتعثر وانحراف الثورة خارج الثورة، دون التقليل من أهمية التخبط والعجز والأخطاء داخل معسكرها وأنصارها و»حلفائها».

باختصار، حسبها الثورة السورية أنها كاشفة للوضع السوري، ولوضع العالم ومستوى عجزه عن القيام بمسؤولياته وفق العقد الراهن، المستمر بفعل العطالة الأممية عن إنتاج عقد جديد يتيح ضمانات تنفيذية تحمي البشرية من الارتداد إلى همجياتها الماضية بها إلى الفناء.

28/03/2015

حنطة

لقراء المقال الأصلي اضغط هنا

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *