يبدو السؤال في عنوان المقالة وكأنه ينتمي إلى سالف العصر والأوان. لكنه، وعلى العكس من التوقعات وبالضد من كثير من القرارات الأممية، كان سؤالاً مثيراً لجدالات والتباسات جرى حسمها مؤخراً (في 11 أيلول/ سبتمبر 2015) لصالح الاعتراف بحق بدهيّ من حقوق المرأة. حيث اعتمدت منظمة الأمم المتحدة قراراً ينص على أن “الجعمية العامة تدعو الدول الأعضاء إلى التفكير في تقديم مرشحات لهذا المنصب…”
قصة “الرجل رفيع القيمة”
منذ نشوء هيئة الأمم المتحدة وحتى اليوم، تناوب ثمانية رجال على شغل منصب الأمين العام فيها، الأمر الذي لم يجرِ بفعل العادات والأعراف التي كانت سائدة وقتذاك وحسب، بل بالاستناد إلى نص صريح يطالب بأن يكون الأمين العام “رجلاً رفيع القيمة..”، الأمر الذي يمكن فهمه في سياقه التاريخي عام 1946، حيث لم يكن وارداً أن تتولى امرأة ما منصباً كهذا نظراً لأن أكثرية نساء العالم كن محرومات من الحقوق وكن يطالبن بحق الاقتراع الذي بدا وقتها طموحاً وصعب المنال، فما بالك بحق الترشح!
لكن مياهاً كثيرة جرت على ما يُقال، وعالم بأكمله تغير وتبدل واجتاحت موجات حقوق الإنسان وحقوق المرأة سائر الدول والمنظمات وغيرّت في الرؤوس والنصوص، وكان لها نصيب ملحوظ في شرعة حقوق الإنسان التي تفترض المساواة الكاملة وفي القرارات الأممية المتعاقبة، التي تم تتويجها عام 2000 عبر قرار مجلس الأمن المعروف بالقرار 1325، الذي يُلزم الأمم المتحدة بتطبيق التمكين السياسي للمرأة وذلك باعتماد مبدأ الكوتا والتعيين تحفيزاً لمبدأ المساواة بين الجنسين.
ومع ذلك بقي وجود هذا التعبير “رجل رفيع القيمة” يشّكل عائقاً أمام ترشح نساء إلى منصب اداري رفيع ينطوي على سلطات اعتبارية ومعنوية تفوق سلطاته الفعلية. الأمر الذي دفع نساء ورجالاً عملوا في مؤسسات الأمم المتحدة وخبروا قواعد وقوانين عملها ومكامن الثغرات والتناقضات في نصوصها من جهة وبين النصوص والواقع من جهة أخرى، لإطلاق حملة شباط/ فبراير 2015 تحت شعار “امرأة لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة”، وهو ما تحقق لهم عبر القرار السابق ذكره.
إصلاحات أم تغيير.. خذ وطالب
لعل قصة “رجل رفيع القيمة” تعكس واحدة فقط من ثغرات أساليب عمل المنظمة وعجزها عن الوفاء بالتزاماتها، نظراً للتغيرات الكبيرة التي شهدها العالم، وارتهانها لموازين قوى وحسابات دولية وإقليمية معقدة، وافتقادها إلى استقلالية القرار والموارد. ما يجعل أصوات عديدة تطعن بنزاهتها وحيادها، وتجدها مطيّة لتمرير مشاريع الدول الكبرى القوية، مطالبة بتغيير شامل يطال مختلف جوانب عملها. على حين تشيع آراء مقابلة تعترف بالنواقص والثغرات، وتفترض أن العالم متناقض بواقعه ومطامعه، ولا بد أن ينعكس هذا التناقض على مؤسساته، لكن هذا لا ينبغي أن يحول دون الاهتمام بالعمل الإصلاحي لأجل تعزيز المشتَرَكات وتوسيع مساحة تلبية الطموحات الإنسانية. وأياً كانت وجهة النظر إلى واقع ومستقبل “الأمم المتحدة”، فإن كل مطلب وكل خطوة باتجاه صون حقوق الإنسان (والمرأة ضمناً) من حيث النصوص والتشريعات أو في سياق التطبيق هي مكسب عام للبشرية جمعاء وينبغي الدفاع عنه والتمسك به كإنجاز، مهما كان صغيراً ومتأخراً ومتعثراً، على مبدأ خذ وطالب، بمعنى عدم الوقوف عنده والاكتفاء به. خاصة وأنه أثناء التطبيق تنشأ عادة (وقد نشأت بالفعل) عراقيل أمام ترشيحات نساء لمنصب الأمين العام.
مَن هنّ المرشحات لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة؟
تنتهي رسمياً الولاية الثانية للأمين العام الحالي “بان كي مون” مع نهاية العام 2016 ويتنافس حالياً 11 مرشحاً على خلافته (ستة رجال وخمس نساء)، هذه المنافسة التي ستكون مناسبة لتنافس نفوذ دولي بين الأقوياء أكثر منها منافسة بين أفراد يشتركون في مواصفات متوافرة لدى الجميع من حيث التحصيل الأكاديمي ومعرفة اللغات والخبرة المهنية في مؤسسات الأمم المتحدة وخارجها في مهام إدارية متنوعة وإلى ما هنالك من المعايير “المطّاطة” التي تندرج تحت صفات النزاهة والحياد وقوة الشخصية… إلخ.
ومهما تكن الاعتبارات والمهارات الشخصية، فإن نظام الترشيح وآلياته هي التي ستحدّد الفائز بالمنصب. إذ يقتضي نظام الترشيح أن
يقدم مجلس الأمن (المؤلف من 15 عضواً بينهم الخمسة الكبار الذين يحتكرون حق الفيتو) المرشح إلى الجمعية العامة المكونة من 193 دولة قبل نهاية شهر تشرين الأول/ أكتوبر للموافقة عليه.
ونظراً للاعتبارات السياسية، فإن المرشح الحالي الذي يحظى بتوافق أمريكي- روسي هو رئيس وزراء البرتغال الأسبق والمفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أنطونيو غوتيرس، وليس أياً من النساء الخمس:
ــ البلغارية إيرينا بوكوفا، المديرة العامة لمنظمة الأمم المتحدة للتعليم والثقافة والعلوم (يونسكو)،
ــ الكرواتية فيسنابوسيتش، نائبة رئيس البرلمان الكرواتي ووزيرة الخارجية الكرواتية السابقة،
ــ المولدوفية ناتاليا غيرمان، وزيرة الخارجية السابقة.
ــ النيوزيلندية هيلين كلارك، مديرة برنامج الأمم المتحدة الانمائي ورئيسة الوزراء السابقة لنيوزيلندا،
ــ والأرجنتينية سوزانا مالكورا وزيرة العلاقات الخارجية الأرجنتينية والتي كانت أحد كبار مساعدي بان كي مون.
بالإضافة إلى عدد من النساء القديرات اللواتي لم يحظين بترشيح بلدانهن، أو جرى استبدالهن لحسابات وتكتيكات سياسية مثل المرشحة البلغارية التي جرى تغييرها واعتماد مواطنتها “كريستالينا جورجيفا” الموظفة السابقة في البنك الدولي والتي شغلت منصباً في المفوضية الأوربية، على اعتبار أن النتائج الأولية للاقتراعات السرية أظهرت تراجع فرص إيرينا بوكوفا، حيث اعتبرت الحكومة البلغارية المرشحة الجديدة هي “المرشح الوحيد والفريد من نوعه” وذلك في محاولة مستميتة للفوز بالمنصب لصالح أحد بلدان أوربا الشرقية واعتماداً على عُرف سائد وتوصية أممية بمراعاة التنوع الجغرافي في اختيار المرشح.
حصاد ضيئل ونضال مستمر
علت نبرات التفاؤل بتغيير ما يطال عالم اليوم المتخم بالمظالم والحروب والتمييز والفقر والحرمان والمرض، على مرأى ومسمع منظمة
“الأمم المتحدة” العاجزة والمرتهنة لمطامع سياسية منفلتة من كل رادع، وجرى تصوير إمكانية فوز مرشحة امرأة لمنصب الأمين العام، وكأنه علاج سحري لكل مثالب الترهل والانكفاء في عمل المنظمة الأممية. ورغم أن هذه “الفورة” انتهت أو تأجلت لخمس سنوات على أقل تقدير، حيث جرت العادة بتجديد ولاية الأمين العام مرتين متتاليتين حسب الميثاق المعتمد، إلا أنه لا بد من ملاحظة ما حققته هذه المرحلة من الحراك:
ــ لأول مرة في تاريخ البشرية يتم ترشيح نساء لمنصب الأمين العام، ما يعني أن آخر الأبواب الموصدة في وجه النساء بات مفتوحاً من زاوية تشريعية على الأقل.
ــ الاعتراف بإمكانات وكفاءات النساء على مستوى التشريع، بعد أن تم إثباتها وامتحانها عبر الأبحاث والدراسات العلمية والاجتماعية.
ــ للمرة الأولى جرت مناظرات بين المرشحين لتقديم رؤاهم وإبراز كفاءاتهم وتعريف الجمهور على قدراتهم ومهامهم، ما سيؤدي للمطالبة بمزيد من الشفافية وإمكانية النقد والمحاسبة لموظفي المنظمة وسبل عملها. وهذه السابقة لم تكن لتحدث لولا الزخم الذي رافق ترشيح خمس نساء للمنصب وقدراتهن على المنافسة.
ــ للمرة الأولى جرت عدة اقتراعات سرية غير رسمية على اسم المرشح، ما يؤشر على جدية أجواء المنافسة في ظل وجود مرشحات، وإمكانية حدوث اختراق مستقبلي في الجدار الكتيم لتوازن المصالح الدولية بين روسيا والولايات المتحدة.
تلخص الدكتورة جين كراسنو أستاذة العلاقات الدولية في كلية مدينة نيويورك ورئيسة حملة “امرأة لمنصب الأمين العام” أن أمام النساء عقوداً للحاق بالركب، وعليهن مواصلة التعليم العالي وتحقيق المناصب الدبلوماسية العليا، فقد ظل الناس يجادلون في الماضي بعدم وجود نساء مؤهلات لهذا المنصب، ولكن ليس هناك مجال اليوم لقول ذلك.
سيدة سوريا
17/07/2016
لقراءة المقال الأصلي اضغط هنا
One Comment
Pingback: