مضى عام يا سميرة، ولم أفلح في الكتابة عنكِ!
تباً ليدي! منذ عام لم تعرفا كيف تنهيا رسالة أو بوست بدأته عشرات المرات؟!. هذه المرة أيضاً، كنت أنتظر معلّلة النفس بأمل أن تأتي وتزيحي عني عبء شرح البداهات وتبريرها، حيث بتنا نتجادل ونختصم حتى في شأن مطالبتنا بحرية أحبتنا، حلمت أن تعودي كعادتك مقبلة ضاحكة نقية بلا ضغائن ولا عتب، أن تشكري الجميع على ما فعلوه وما فكروا فيه ولم يفعلوه، وأن تعذري حتى أؤلئك الذين لا يطلبون عذراً، لأنهم لا يخطئون!
في الكتابة عن سميرة رهبة لا أعرف مصدرها، لعله بسبب التحدي المفروض على أي كتابة تجاه طيبة سميرة وبساطتها وعفويتها واجتماع انحيازها الفطري الحار إلى وعيها وضميرها اليقظ، ولعله يتصل بنفوري من الأيقونات ومن المساهمة في أسطرة الأفراد، لأن الأيقونة تسجن الإنسان في إطار محدد يحشر كل تنوعه وصراعاته وسيرة حياته اليومية بتناقضاتها وارتكاساتها في ترسيمة واحدة: البطل أو الملاك أو الضحية. ولأن الأسطرة خدعة “جميلة”، بما هي نوع من تحنيط البشر وعزلهم عن واقعهم ومفرداته، وركنهم على جنبه أو فوقه، عبر التقديس الذي يبدو مهيباً. الأمران اللذان لا يشبهان سميرة بأي حال، ولا يليقان لا بقلبها ولا قالبها. لكني أقبض على نفسي وقد جعلت من سميرة الانسان الفرد المتألم المقهور، المخطوف الذي هرب من الدّب (النظام) فوقع في الجبّ (كل الأدلة تشير إلى جيش الإسلام حسب معطيات العارفين والمتابعين للقضية) مشروع قديسّة، حين نتخلى عنها وهي تعاني وتكابد وحيدة ونحتفي بها وقتما تعود إلى “خدمتنا” من جديد!
اذن، نحن نكتب عن سميرة (وسواها)، لا لتقديسها أو تمييزها، بل وتحديداً، لنستعيدها إلى طبيعتها البشرية، إلى واقعها وتشابكاته وتعقيداته، إلى حياتها التي خطفت منها عنوة وقسراً ودون سابق انذار. لكن الصورة لا تستقيم، صحيح أن سميرة هي مثلنا كلنا، لكن الصحيح أيضاً أنها أبدع ممكناتنا: سميرة بنت البلد، العذبة كالماء، الشجية كدمعة، والقوية الصابرة مثل بلادنا.
سميرة وفيرة الشبه بنا كلنا مع علامتين فارقتين.
أولهما: العمل المدني والعطاء الهادف: في مثل هذه الأيام من السنة الماضية، ، وبينما كانت الأخبار والناشطون الإعلامييون ينهمكون في تغطية القصف على الغوطة في ريف دمشق وخطط النظام ومحاولات افشالها من قبل الثوار والتبشير بالنصر. كانت سميرة تواظب على نشر “بوستات” صغيرة عن الخوف والجوع والبرد وانقطاع الماء وشحّ الطحين وبالتدريج بدأت تكتب عن احتكار ومتاجرة ببعض المواد الغذائية وتفاصيل معاناة من داخل الحصار… لنكتشف لاحقاً أنها لم تسعى إلى تسجيل تلك الوقائع ورصدها كمراقبة، بقدر ما كانت تعمل على ايصال رسالة واضحة ومحددة عن المصاعب والعقبات، عن الاحتياجات والإمكانات التي ينطوي عليها عملها المدني الذي تمارسه بدأب وعناد واعتياد واقتدار.
وثانيهما:العلامة الفارقة الأخرى هي اقتران القول بالفعل وجرأة اجتراح المثل: عبر نمط حياتها الفريد مع زوجها ياسين الحاج صالح. وبعيداً عن التفاصيل الشخصية، يمكن التنبؤ بما تعنيه شراكة سجينين سابقاً، من اتحاد ارادتين: ارادة ياسين وخياره تجاه سميرة، وهو خيار واعي وأصيل ومنسجم مع تاريخ الرجل وأفكاره وقناعاته وما يدعو له، الأمر الذي يسجّل لياسين الذي يسعى لمواءمة الوعي مع الممارسة في شأن شديد الخصوصية مثل الزواج، وارادة سميرة الحرة في السعي إلى ارتباط مختلف وفهم متطلباته ومقتضياته وتبعاته بحنان ومسؤولية وفرح. يصعب على المرء تخيل استمرار علاقة زواج لا يشدّ أزرها أبناء، ولا يدعم أواصرها مجمتمع متواشج بعلاقاته الأسرية الممتدة وطقوسه وعاداته وتقاليده ومصالح أفراده… لكنه لا بدّ أن يقف أمام هذه التجربة بكثير من التأمل والاحتفال، علاقة زوجية مختلفة عن مثيلاتها، ترعاها عين الوعي وانتباه الصداقة وعفوية الحب المبذول دون اشتراطات. هي علاقة خاصة، لكنها منفتحة على الحياة ومنذورة لأجلها، تخضع لتقلباتها لتنغرس فيها عبر شراكة الآمال والآلام، التضحيات والانجازات والمصير.
ولعل هاتين العلامتين الفارقتين (العمل المدني، ونمط الحياة المختلف)، تفسران وتؤشران إلى طبيعة الجناة المختطفين الرافضين لكل عمل مدني خارج سيطرتهم وسلطاتهم، وكل نمط حياة جديد منفتح وحرّ وبنّاء. ولابدّ من التذكير هنا بنمط الحياة المشابه الذي تعيشه رزان زيتونة مع زوجها وائل حمادة وبالصداقة التي تربط الجميع بالحقوقي والشاعر ناظم حمادي.
إن اختطاف ناظم، وائل، رزان، سميرة، لا يمكن فهمه خارج هذه الثورة المضادة على الحياة المدنية والحريات الشخصية والعامة وعلى كرامات البشر وأمنهم وحقهم في الوجود والتعبير والتغيير، التي هي أولاً وأخيراً أهداف السوريين الذين لم يدفعوا كل هذه التضحيات لأجل استبدال استبداد بشار الأسد ونظامه باستبداد زهران علوش وسلطته التي إن لم تكن هي الجانية، فعلى الأقل هي من تتستر على الجناة وتحميهم وتتواطئ معهم في صمتها المشين وقعودها عن تحرير المختطفين.
هؤلاء الأربعة طالما اعتبروا سورية بيتهم، والسوريون أخوتهم وأولادهم وكل عائلتهم. لذا عندما نطالب بعودتهم، فنحن لا نفعل ذلك انتصاراً للحق والعدالة والحريات فقط، بل تأكيداً على فطرة الإنسان الطبيعي الحميم المحب لأخيه مثلما يحب لنفسه. نريدهم بيننا لأننا اشتقنا لهم ولصحبتهم، لأننا نرجو لهم أن يعملوا ويعيشوا ويأخذوا نصيبهم من الحياة ومن التجربة ومن السعي كما غيرهم من السوريين لا زيادة ولا نقصان! نريدهم بيننا لنكف عن الحديث عنهم، وليستردوا مكانهم ومكانتهم في مناصرة الضعفاء والمظلومين والمحاصرين والمعتقلين والمخطوفين… والذين لم نعرفهم ولن نعرفهم طالما يتم تغييب أمثال هؤلاء النشطاء بتآمر خفي واجرامي من قبل النظام ومن على شاكلته من الفاسدين المستبدين.
هامش: وأريد سميرة (ورفاقها) أيضاً لأجل أن تتصالح ذاكرتنا مع مدينة دوما، هذه المدينة التي يوجعنا اسمها المرتبط بالسجن الذي نهب شبابنا الأول، وهاهي تفتح الجرح القديم عندما تحتجز فيها سميرة وهي في منتصف العمر مرة أخرى.. وكلي رجاء أن تكون الأخيرة.
09/12/2014
لقراءة النص الأصل اضغط/ هنا