مقالات نسوية

المرأة السورية: مخاضات عسيرة وآمال ممكنة

في سوريا وبعد أربع سنوات من الصراع الدامي المرير، يبدو ظاهراً للعيان تفتت المجتمع وتقوض معظم بنيانه اثر انفلات العقد الاجتماعي السابق القائم على القهر والهيمنة، دون ظهور أثر لعقد جديد بين المواطنين رجالاً ونساءاً. ما يعني أن الحرب والفوضى والخراب والدمار وتبعاتهم تقع على كاهل المجتمع بكل شرائحه وأطيافه، وتدفع كلفها الباهظة الأطراف الأكثر ضعفاً وهامشية: المرأة والطفل وكبار السن

تعاني المرأة السورية اليوم من النزوح والتشرد وفقدان المأوى وواجب حماية الأولاد ورعايتهم بعد غياب الزوج في القتال أو موته أو اصابته أو اعتقاله أو خطفه أو معاناته من البطالة، وهاجسها ضمان حق الحياة لنفسها ولأولادها وتعليمهم وتأمين غذائهم وصحتهم وحمايتهم من الاعتداءات المادية والمعنوية في ظل انفلات أمني وقيمي أخلاقي ملازم لحرب وحشية قذرة استخدمت فيها كل الأسلحة والأدوات بكثافة مثيرة للرعب والتقزز. ما أدى إلى تفاقم ظاهرة تزويج القاصرات التي تعتبر الوجه المكمل لظاهرة بيع الجسد التي تستفحل وقت الحروب والأزمات، كما تعاني الأمهات الأكبر سناً من هجرة أبنائهن الذكور تهرباً من القتال مع أحد الطرفين أو خشية الاعتقال والخطف، وللشابات قلقهن الدائم من بقائهن منزوعات الحقوق في بلد بات يحتكم لقوة السلاح التي استباحت الأعراض قولاً وفعلاً عبر الاعتقال والخطف والاغتصاب والاعتداء والتحرش ناهيك عن الدعوات الهمجية لإقصاء المرأة عن المجال العام عبر تقييد حريتها في اللباس والظهور والكلام وحقها في العمل والتعليم تحت ستار الفهم المشوه للدين الذي تتبناه الفصائل الإسلامية المتطرفة، بل وصل الأمر بـ “داعش” أن قامت بتصفية نساء في الساحات العامة بذرائع الانتصار للدين والأخلاق

تزيد وطأة معاناة المرأة السورية كونها غير مهيأة اجتماعياً ولا نفسياً لمواجهة الأعباء القاهرة والمفاجئة. فبعيداً عن الصور الوردية التي يقدمها الإعلام الرسمي والنصوص الدستورية والقانونية التي تضمن معظم حقوق المرأة شكلياً، إلا أن الوقائع الملموسة تقول أشياء مغايرة، يدركها السوريون جميعاً. سواء من تراجع نسبة التعليم بين النساء ناهيك عن تدني نوعيته، وما رافقه من تراجع ملحوظ في عمل المرأة خارج المنزل، بالنظر لزيادة السكان وانتشار القطاع الخاص الذي لا يعتمد عموماً على عمل المرأة غير المؤهلة. إن افتقار المرأة للتعليم والتدريب والاستقلال الاقتصادي جعلها مكبلة بأغلال الضيق والقهر وانسداد الأفق في بلد لا توجد فيه منظمات مجتمع مدني أو هيئات مستقلة تعنى بشؤونها وقضاياها إلا بصورة جزئية نتيجة القمع والاستئثار السلطوي بمجمل الفضاء العام. فمنظمة الاتحاد النسائي الرسمية تعتبر أصلاً منظمة ذات أهداف سياسية تستخدم يافطة المرأة على سبيل مواكبة العصر. تعمل بتوجيهات سياسية سلطوية سواء على مستوى بنيتها الداخلية وتركيبتها التي تستقطب النساء المواليات أو على مستوى تبعيتها للقرار السياسي، بحيث يقتصر دورها على اقرار توجهات السلطة في الكثير من القوانين الجائرة بحق المرأة، مثل قوانين جرائم الشرف، قوانين الأحوال الشخصية التي يترك الجزء الأهم منها للسلطات الدينية المتعددة، من الزواج والطلاق والإرث…، عداك عن أن كل القوانين بتعقيداتها البيروقراطية وخضوعها للعرف العام، تبقى حبراً على ورق في ظل غياب آليات تنقيذ وضمانات محددة ومكفولة دستورياً. خاصة في ظل مجتمع قيد التشكل ماتزال تلعب فيه العادات والتقاليد والأعراف الدينية والعشائرية والطائفية والمناطقية دوراً مؤثراً

لم تكن المرأة السورية سلبية حيال قضاياها الخاصة أو المجتمعية، وبرزت مناضلات وسياسيات وحقوقيات ساهمن إلى جانب الرجال في كل الأحزاب السياسية العلنية منها والسرية، وتعرضن للاعتقال سنوات والمحاكمة والتعذيب والحصار الاجتماعي والقهر النفسي، وظهرت من أوساط الطبقة الوسطى كثيرات من المتعلمات العاملات في مجال التعليم والطب والصحافة والأدب والفن وحملن رؤية خاصة دافعن عنها وقدمن من الخدمات الفردية والمنظمة في جميعات صغيرة أو مبادرات كلما سنحت لهن فرصة تراخي القمع السياسي أو الردع الديني. وشاركن في حملات تواقيع ومظاهرات ضد العولمة وفي سبيل القضية الفلسطينية ودعم النازحين اللبنانيين والعراقيين وغيرها

فليست مصادفة أن يتم اعتقال أكثر من امرأة ــ ناشطة سياسية سابقاً في أولى اعتصامات دمشق تضامناً مع الثورات العربية. وما إن اندلعت الاحتجاجات حتى وجدت المرأة نفسها جنباً إلى جنب مع الرجل والأولاد في المظاهرات، وساهمت بالإعداد والتنظيم والتصوير والإعلام والتوثيق ومعالجة الجرحى وتهريب الأدوية والإغاثة ولم تزل الكثير من الأعباء اليومية (اللوجستية) تقوم بها المرأة بكل براعة والتزام وابتكار، الأمر الذي لم يترجم في سياسات وبرامج الأحزاب والتنظيمات المعارضة، حيث بقي حضور المرأة فيها حضوراً شكلياً، متدنياً من حيث العدد والمكانة التي تضمن المساهمة الفعلية كشريك في القرارات وانتاج الخطط والسياسات

طردت الحرب المدنيين عموماً والنساء خصوصاً من ميدان الفعل والتأثير، وتراجعت حقوق المرأة ومطالبها وطموحاتها بالمزيد من الحريات الجذرية وحقها بالعدالة الاجتماعية، إلى الدفاع عن حق الحياة. في ظل حرب لا يبدو لها نهاية، أصحبت فيها المرأة عبئاً على المجتمع الذكوري المتقاتل الذي زادته شراسة الحرب المدمرة عنفاً وقسوة

ولا تزال التنظيمات النسوية الآخذة في التكاثر والانقسام، عاجزة عن ايجاد هوية واضحة تعبر عن المطالب النسوية العادلة المتمثلة بالاعتراف تشريعاً وممارسة بشراكتها الكاملة في كافة مناحي الحياة. آخذة بالاعتبار معطيات الواقع الجديدة حول تقسيم الأدوار النمطية بين الجنسين، والنظرة الدونية النابذة للجماعات المهمشة كالمرأة الفقيرة وغير المتعلمة والأرملة والمطلقة والعانس والمتزوجة من خارج الدين أو الطائفة أو القومية أو لليتامى والمعاقين والمصابين. وما يترتب على ذلك من إعادة النظر بتكوين الأسرة والتربية والتعليم وقيم المجتمع وأخلاقياته.

وتكتسب قضية المعتقلات والمخطوفات (والمعتقلين والمخطوفين) أهمية راهنة وملّحة، يمكن للمرأة أن تحملها بجدارة وفعالية بما لها من قدرة وصبر على المتابعة والاهتمام وطرح القضايا الإنسانية والتحشيد حولها جنباً إلى جنب الرجل. وفي هذا السياق ظهرت الكثير من المبادرات الفردية (باص الفنانة يارا صبري للمطالبة بالمعتقلين ومتابعة أخبارهم)، ومبادرات الحملات المنظمة التي آخرها الحملة التي أطلقتها “شبكة الصحفيات السوريات” ناهيك عن حملات ومطالبات فردية وجماعية عبر وسائل الإعلام واستخدام وسائل مثل الإضراب عن الطعام للضغط على الرأي العام واجباره على الاهتمام بهذه القضية الحيوية التي تحتاج إلى مزيد من تضافر الجهود وتنسيقها وتصعيدها والتشبيك مع منظمات وخبرات اقليمية أو أممية في هذا المجال.

طالما كانت التحولات الثورية الكبرى ملهمة للحركات النسوية في دفعها للمشاركة والتجذر والانغماس بقضايا المجتمع. ما يطرح على المرأة السورية الكثير من التحديات والمسؤوليات راهناً ومستقبلاً (إذ ستتحمل العبء الأكبر في بناء سوريا القادمة) عليها استثمارها وتحويلها إلى فرصة لإثبات قدراتها وجدارتها (إلى جانب الرجل) بالتحرر من قيودها والانخراط النشط في طرح القضايا وحلّها من وجهة نظر الشراكة العادلة الكفوءة. هذه الفرصة لن تكون من دون الكثير من الآلام والعمل والتضحيات مثلها مثل سائر عمليات الخلق والولادة، لكنها ستكون هذه المرة فرصة تاريخية لإثبات الوجود وتشريعه، فرصة منبثقة من نضالات حركة مجتمعية ونسوية ما يشكل ضمانة للبناء عليها مستقبلاً.

 

شبكة المرأة السورية

لقراءة المقال الأصل اضغط/ي هنا

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *