عرض كتب

كتاب اللغز الأنثوي

قراءة سورية لكتاب “اللغز الأنثوي”

في سيرة بحثية علمية نظرية وعملية مبنية على القراءات النقدية والبيانات والاستبيانات والملاحظات والإحصاءات، متداخلة مع السيرة الشخصية، تشيد فريدان بناء مكوناً من أربعة عشر فصلاً، استغرق العمل فيه خمس سنوات، لتكشف عن ماهية اللغز الأنثوي المتمثل بالصورة النمطية التي أنتجها المجتمع الأمريكي في الخمسينيات للمرأة/الأم وربة المنزل السعيدة، المرأة الجميلة بفضل تطور صناعات التجميل وذات الشباب الدائم! وأمّ الأولاد الذين تحرص على تقبيلهم والحفاظ عليهم بقربها، والزوجة دائمة الابتسام لزوجها المنهك بتأمين البيت الفسيح والسيارة والأقساط ومستلزمات بقاء الأسرة وربّتها في نعيم العطور والأناقة والبهجة. هذه الصورة/اللغز لم تكن كافية لتجلب الرضى الذاتي للمرأة ولا لزوجها أو لأطفالها، ولا للمجتمع بالطبع، إذ تجد الكاتبة أن “المرأة الأمريكية عموماً كانت تستلقي في الليل إلى جانب زوجها، خائفة أن تطرح السؤال الصامت المثير للغيظ والألم: أهذا كل شيء؟!”. لتجد الإجابة: “كنت أنا وكل امرأة عرفتها وكذلك الأطباء والخبراء النفسيين والمعلمين و… كل المجتمع نعيش كذبة”، كذبة مقنعة بصورة المرأة اللغز الأنثوي الفاتن، والذي تكشف حقيقته على أنه “تطفيل المرأة ومنعها من النمو واكتساب هوية” عبر تسفيه عقلها وروحها، وإغراقها باهتمامات عوالم خيالية من السحر والمزركشات والحيوانات الأليفة وملاطفة الأطفال، دون بناء علاقة تواصل وتفاعل مع المحيط الأسري أو المجتمعي. وإذا كان هذا حال المرأة المتعلمة تعليماً جامعياً أو أدنى، فإن حال النساء من الطبقة الفقيرة أشد بؤساً، إذ يعانين من تردي أوضاعهن المعيشية وعملهن المجهد والقليل المردود خارج المنزل، بالإضافة إلى حسرتهن الدائمة من وجود الهوة السحيقة بين واقعهن وبين إمكانية الوصول إلى المثل الاجتماعي الأعلى: اللغز الأنثوي.

مقاربات مشروعة :

ــــ تعزي فريدان تراجع حقوق المرأة وحرياتها، إلى الحرب العالمية الثانية وتداعياتها التي شكلت عامل ضغط كبير على المرأة الأمريكية، ما جعلها مستعدة لملاقاة ميل الذكور العائدين من الحرب إلى الحصول على العناية والرعاية والاهتمام عبر الزواج وإنجاب المزيد من الأطفال (كانت الأم الأمريكية لا تنجب أكثر من طفلين وسطياً في العشرينيات من القرن الماضي، بعد الحرب أصبحت تنجب وسطياً خمسة أطفال!).

وتذكر فريدان ما قاله فيدل كاسترو لنساء كوبا الثوريات اللواتي قاتلن إلى جانب الرجال أثناء الثورة: “ينبغي أن تعُدْن إلى منازلكن، فمن سيطبخ الحساء؟”.

إذن في سوريا الثورة والحرب، ما الذي يُعّد للنساء؟ وما الذي تريده النساء على ضوء التجارب التي باتت متكررة في التاريخ وفي واقع البلدان التي شهدت موجات الربيع العربي؟ تبدو للسؤال راهنيته.

ـــ الجميع في أمريكا كانوا يرون أن ثمة مشكلة في وضع المرأة، الأطباء، المفكرون والإعلاميون كانوا يرون مظاهر المشكلة: عدم الرضا في الزواج، عدم رضا الأطفال، الطلاق، التراجع الدراسي عند اليافعين، السمنة والكسل والمراجعة المتزايدة لعيادات الأطباء النفسيين. وقد نسبوا المشكلة إلى مجهول سمّوه: متلازمة ربّة المنزل!. “برأي المجتمع وخاصة ذكوره العائدين من الحرب والذين استعادوا السيطرة على وسائل الإعلام والتعليم وغيرها، أن تعليم النساء مشكلة، حياتهن المهنية مشكلة، اهتمامهن بالسياسة مشكلة، حتى الذكاء والشغف والرغبة الجنسية كلها مشاكل.. وحلّها ممكن بصبغ الشعر بالأشقر أو إنجاب طفل جديد أو الذهاب في إجازة..”. وهكذا تم تجريب توجيه التعليم في خدمة اللغز الأنثوي، أي تعليم الطالبات التردد والخجل والحفظ والمثابرة لحين الحصول على زوج! ناهيك عن ازدراء تعليم الفتيات أساساً، ما أدى إلى انخفاض سن الزواج ليصل إلى 17 سنة.

أمام الفشل المتكرر في حلّ المشكلة، تمت إعادة الاعتبار للتعليم لكن بصورة منقحة، أي تعليم الكبيرات بعد أن ينهين واجبات الأمومة! وهنا تذكّر الكاتبة بشعارات الموجة النسوية الأولى عام 1848: التعليم أولاً، ثم حقوق الملكية للمرأة (حقها بالاستقلال الاقتصادي، حيث كان يعتبر دخل المتزوجة حقاً للزوج)، ثم حق الاقتراع.

وبمقاربة مع حال النساء السوريات، يتضح أن نسبة الأمية المتفشية بين النساء تزيد ثلاثة أضعاف عن نسبتها بين الرجال قبل الثورة، والوضع اليوم يزداد تفاقماً نظراً لنزوح أكثر من ثلث سكان سوريا ودمار المدارس واستخدام قسم منها كملاجئ أو كحصون عسكرية للمتقاتلين، ما يطرح سؤالاً كبيراً عن أولوية التعليم للإناث خاصة، مهما كانت العقبات، كجزء من حق الحياة: حياة الجسد والروح والعقل، ناهيك عن نوعية التعليم التي تحتاج إلى “ثورتها” الخاصة.

ـــ تستعرض الكاتبة تحت عنوان: “الرحلة الحماسية” تاريخ الحركة النسوية الإصلاحية في الولايات المتحدة الأمريكية والعالم عموماً، مستعيدة صور نضال الجدات الأوائل وكفاحهن المرير في سبيل أن يتمتع العالم بما هو عليه اليوم كإرث إنساني عام. وكم كان مضنياً وشاقاً ذاك الجهد وتلك التضحيات التي بُذلت لولا الحماس الذي تمتعت به رائدات الحركة النسوية، اللواتي قمن بمئات حملات التوعية والخطب، واقتحمن كل ميدان بوسائل بدائية، وواجهن النقد والسخرية والتعّرض لكراماتهن والتهجم على منابرهن، والنيل منهن بكل وسيلة قذرة وصولاً إلى السجن والتعذيب، ما يحيل إلى ضرورة التعامل الجدي والناضج مع قضية المرأة والحقوق والحريات عموماً، والتي تقتضي فهم حدود القضية وعلاقتها بالسلطة السياسية الذكورية وثقافتها وإعلامها، وما يترتب على ذلك من استراتيجيات وخطط عمل وتضحيات وعمل دؤوب طويل الأمد، لا يقف طموحه عند صوغ المكتسبات في قوانين، بل يسعى إلى متابعة تنفيذها وتطويرها والتصدي لمحاولات الالتفاف عليها. الأمر الذي أعادت تأكيده مجريات الربيع العربي في كل مكان وفي سوريا، حيث جرى إعطاء الوعود العامة تحت ضغط الحركة الشعبية وتصاعد قوتها وحيويتها، لكن سرعان ما تم التراجع عن هذه التصريحات والكلام الغائم خاصة من قبل القوى الإسلامية من الإخوان المسلمين والسلفيين ورجال الدين المتشددين، ناهيك عن القوى المتزمتة التي لم تكلف نفسها عناء الادعاء أصلاً. ولم تبدِ القوى المعارضة الأخرى حساسية خاصة تجاه وضع المرأة، واختارت غض النظر مقابل عدم شق صفوف الثورة، ليتضح لاحقاً أن الحقوق والحريات كلّ لا يتجزأ.

ـــ تلاحظ فريدان أن الحركة النسوية تقوى ويشتد ساعدها كلما ارتبطت بهموم مجتمعها وكلما انحازت إلى المظلومين والمقهورين في المجتمع. وتذكر أن الناشطات النسويات في أمريكا كانوا مساهمات في الحركة من أجل إلغاء العبودية في القرن التاسع عشر، كما وقفن ضد الحرب على فييتنام، ما يعني مرة أخرى أن قضايا المرأة جزء من قضايا المجتمع، بل هي من أهم قضايا المجتمع، إذ يقع على عاتق المرأة نقل ثقافة المجتمع إلى الأجيال، ما يستوجب أن تكون مشاركة فعالة في إنتاج هذه الثقافة وتعميمها.

ولعل الثورات والانتفاضات والاحتجاجات في حياة المجتمعات فرصة مواتية للكشف عن الأخوة الإنسانية بين البشر رجالاً ونساء، وعن وحدة معاناتهم وصراعهم ضد السلطات الظالمة المنتهكة للحقوق والحريات، وبالتالي حاجة نصف المجتمع لنصفه الآخر في فهم قضاياه ومؤازرته والدفاع عنه. وتبرز أصالة كل حركة اجتماعية بمقدار ما تعبر عن تطلعات وآمال مجمل المظلومين في واقعها. وفي التجربة السورية لم يتم التعامل مع وضع المرأة كجزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان وحرياته المرتبطة بقضية الكرامة والحرية على المستوى الوطني.

ـــ تستعرض فريدان في خاتمة كتابها ميل السلطات الدينية والإعلامية والسياسية السائدة إلى الوحدة في الخطاب والاستراتيجيات تجاه معاداة الحركات النسوية، عبر توجهين رئيسيين، الأول: يركز على الأخطاء والثغرات ويضع العقبات ولا يتوانى عن التشهير والتقبيح والمبالغة في الخطاب الذي يماهي بين المرأة ووظائفها الطبيعية المنسوبة لها في القالب الذكوري (طاعة الزوج والحب الأمومي)، ويرى في كل امرأة/إنسان “مسترجلة، آكلة رجال، حكم التنانير، عانس، عصابيات ضحايا للحسد القضيبي، مكبوتة جنسياً..”، والتوجه الآخر: تشجيع النساء على التطرف في التعبير عن أنفسهن عبر ظواهر عنفية تجسد الحقد على الرجال ونشر الكراهية ضدهم، ظاهرة السحاق.. بما يشّوه صورة المرأة/الإنسانة ويعزلها عن محيطها النسوي نفسه وعن مجتمعها عموماً. وترى فريدان أن ثمة أعداد غير ذات بال من النساء سلكن هذه الدروب في بدايات عهد الحركة النسوية التي لم تستطع التمييز بين الرجل/الإنسان، والرجل المقولب بالقالب الذكوري/المظلوم أيضاً، وبين السلطات الذكورية التي تستغل الرجل والمرأة بما يكفل تأبيد سيطرتها. لتجد تشابهاً مثيراً مع وسائل السلطة السياسية في تشويه حركة السود في أمريكا عبر دّس المتطرفين العنفيين فيها والتركيز عليهم في الإعلام، محذرة من خطر هؤلاء المتطرفين والمتطرفات ومدى إساءتهم لأي حركة تحرير بصرف النظر عن نواياهم ودوافعهم ومن يقف وراءهم. مرّة أخرى يظهر التاريخ هنا مليئاً بالتجارب والعبر المتراكمة والتي ينبغي على أي حركة تحرير هضمها واستيعابها والحذر من تكرار المآسي وبذل التضحيات في غير مكانها.

ـــ تخلص الكاتبة إلى نتيجة مفادها أنه من دون كشف اللغز الأنثوي واللغز الذكوري أيضاً، أي القوالب التي سجنت فيها السلطات الذكورية الإنسان رجلاً وامرأة عبر النمطية وتقسيم العمل، لن يتحرر المجتمع بكل طاقاته وإمكاناته ليعمل معاً على نهضة الأمة بما يتيح تحقق الإنسان وسعادته مع شريكه من الجنس الآخر ومع شركائه في الحياة. وتقترح عدداً من الإجراءات والحلول الممكنة حسب واقعها، وفي طليعتها إعادة النظر في تكوين الأسرة ودورها في التنشئة واعتبار الأولاد مسؤولية ثلاثية الأقطاب بين الزوجين والمجتمع، وفي حق الطلاق، حق الإجهاض، حق التبني.. إلخ.

ولعل الكثير من الطروحات تستدعي الوقوف عندها في واقعنا السوري الراهن، حيث عملت الحرب على تهديم بنيان الأسرة عبر النزوج والهجرة وخسارة أعداد هائلة من الرجال والشباب في القتال أو الموت أو الاعتقال أو الخطف أو ندرة فرص العمل.. ما يعني أعداداً متزايدة من الأرامل والمطلقات، أو المعلّقات مجهولات المصير والشابات من دون زواج، ناهيك عن ضحايا الحرب من المغتصبات والمعنفات وصاحبات العاهات والفقيرات وغير المتعلمات والمتزوجات قسراً تحت السن القانوني، الأمر الذي يشكل ضغطاً ثقيلاً على كاهل المرأة التي تتراجع حقوقها أساساً في ظل الحرب وفي ظل سيطرة فكر ظلامي متشدد يعمل على إقصائها من الوجود في الفضاء العام بشتى السبل. كل هذه المسائل ومتعلقاتها تستدعي النظر إليها بجدية وصوغ رؤية وخطط عمل تتيح إيجاد حلول اجتماعية بأفق ثوري يؤسس لإنتاج ثقافة تحاكي ثورة الحرية والكرامة.

ــــ من خلال تتبع منهجية فريدان في بحثها عن مشكلتها ومشكلة المرأة عموماً، يتضح حجم الجهد الذي كرسته لهذا العمل، والذي ساندها فيه الكثير من الأشخاص رجالاً ونساء، حرصت على ذكرهم وشكرهم في كتابها. لقد بحثت في الكتب الاجتماعية والنفسية والسياسية، درست تاريخ الحركة النسوية، ناقشت فرويد، واعترضت على لوحات الرسم والطقوس الدينية والأساطير، ناقشت صور وسائل الإعلام وانتقدت نفسها كصحفية وكأم وزوجة، شاركت في منديات ومؤتمرات، ووزعت استبيانات وأعادت مراجعة الإحصاءات المتوفرة وقرأتها من وجهات نظر متعددة، طلبت مساعدة الأساتذة وأطباء النفس، وتعرضت للسخرية والإحساس بالذنب حدّ الاعتقاد بأنها مجنونة.. إلخ، رحلة تصفها لتكون دليلاً لكل امرأة ورجل كما تقول الكاتبة، ليبدأا طريق تحديد المشكلة وصولاً إلى حلّها، ما يمكن ترجمته في واقعنا السوري إلى تجنب الاستسهال والتبسيط ونسخ التجارب والعفوية في تشخيص الواقع ومعطياته.

ـــ مهما بدا بطيئاً ومتعثراً عمل دور النشر والطباعة في سوريا اليوم، إلا أنه يؤشر على سعي جاد لالتقاط بوصلة قلّ استخدامها في التفاعل مع معطيات الوضع السوري الذي يزداد تأزماً، أي استخدام المعرفة والفكر المتراكم منه والذي ما زال قيد الإنتاج، بما يتيح إمكانية بناء تصورات أو العثور على ممكنات تفتح أفقاً جديداً أمام سوريا الغارقة في مستنقع العنف والدم والتشدد والكراهية. وفي هذا السياق ظهرت دار الرحبة، مقدمة أولى مطبوعاتها: “اللغز الأنثوي”.

 

07/05/2014

لقراءة النص الأصل اضغط/ي هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *