ضرورة تحليل وتوصيف الحرب المشتعلة في سوريا، لا تمليها مقتضيات المعرفة والبحث، بقدر ما تفرضها راهنية واقعية همّها فهم تعقيدات الصراع الدامي وصولاً للتأثير فيه وانهائه ما أمكن.
معظم التحليلات والتقارير اليومية عما بات يعرف بالمسألة السورية، يشوبها الكثير من التشوش مرده الخلط بين مستويات ثلاثة في التعاطي:
أولاً : هناك التصورات والافتراضات الذهنية المثالية عن مفهوم الثورة وأهدافها، وعن الثوار والسوريين خاصة، حيث تتجلى “العنصرية” في تنزيه الشعب السوري وثواره عن كل ما هو بشري وواقعي.
ثانياً: يحضر عامل اسقاط الرغبات والتمنيات على الواقع، في محاولة لقسره على التكيف مع التصورات السياسية لجهات تبحث عن موقع لها في الصراع. حيث يتم تصوير الحرب على أنها طائفية، أهلية، ثورة سياسية على نظام مستبد، ثورة اجتماعية على نظام مستغل وطاغي.. الخ..
ثالثاً: هناك معطيات الواقع الفعلية العنيدة، والتي تكاد تكون عصية على أي مقاربة معروفة بسبب تراكبها وتفاعلها مع معطيات شديدة التنوع والخصوصية داخلياً وخارجياً.
هل الحرب طائفية؟ هل هي حرب بين السنة والعلوية؟
هكذا زعم زعيم العالم باراك أوباما صيف 2012، وكان قد سبقه الكثير من الأطراف الإقليمية: قطر والسعودية وايران وتركيا والتي يغذي كل منها أطرافاً داخلية بكافة أشكال الدعم المادي والإعلامي خدمة لمصالحها وتطلعاتها في سوريا.
منذ بداية الاحتجاجات وفي محاولة لإنكار مشروعيتها سارعت السلطة السورية عبر مستشارة الرئيس باتهامها بالطائفية، ورغم تصاعد وامتداد المظاهرات المطالبة بالحرية والكرامة، إلا أنه لا بد من الاعتراف أنها لم تخلو من شعارات وحوادث طائفية ظهرت في بانياس تلتها بشكل أوضح في جسر الشغور وحصار نبل والزهراء ثم في معركة الساحل مروراً بحصار حمص، وخلال السنوات الثلاث المنصرفة سجلت الكثير من حوادث الانتقام والخطف والقتل والاغتصاب والاعتقال والسرقة على خلفيات طائفية، ولا تزال الدعوات المتبادلة إلى إبادة الآخر مسموعة، ومنها تيارات تجد أن المخرج الوحيد هو في إبادة الطائفة العلوية نظراً لأقليتها العددية وكثرتها المعتدية حيث قيادات الأمن والجيش ينتمون إلى هذه الطائفة. كما يدعو غلاة العلويين إلى قتل السنة أو كسر شوكتهم على الأقل، في استدعاء منزوع السياق لأحداث الثمانينيات ونجاح الخيار العسكري الأمني في سحق حركة الإخوان المسلمين وقتذاك. وفي الواقع كان لجوء السلطة للخيار العسكري الأمني المبكر تجاه الاحتجاجات، وترك الحبل على غاربه لمجموعات الشبيحة واللجان الشعبية، دوراً كبيراً في تأجيج النقمة الطائفية ونكأ الجراح المستترة.
“الحرب السنيّة ــ السنيّة”:
إنّ دعاة الحرب الطائفية وجنودها يغمضون عيونهم ويصمون آذانهم عن الحرب السنية ــ السنية (إذا جاز التوصيف بمصطلحاتهم) في حلب والرقة ودير الزور والحسكة وغيرها، كما لا يريدون رؤية المعارك والمناوشات بين السنة السوريين وغير السوريين وبين الكرد، وبين الكرد والكرد على خلفيات سياسية توجهها مصالح اقليمية متضاربة، ويضربون صفحاً عن المعارك والتصفيات العسكرية بين كتائب الريف وكتائب المدن، بين العشائر المنقسمة في الموالاة والمعارضة، وعن حوادث الانتقام والاعتداء بين البدو وأهالي السلمية والسويداء. بالمقابل يتعامون عن حقيقة بسيطة جلية متمثلة بنزوح نحو مليوني سوري (سني) إلى الساحل (العلوي) ما يؤشر على تراكم معطيات الواقع باتجاه معاكس تماماً لما يريده أنصار الحرب الطائفية التي تستعر دعواتهم لفتح معركة الساحل، إلا إذا كانوا يريدون أن يستهدفوا السنة الذين بدأوا يزيدون عددياً على علويي الساحل بتهمة انحيازهم للعلوية (النظام) ولخروجهم عن نسق التحليلات والخطط المعدة ربما، كما حدث في حلب حيث تصاعدت التسويغات الهستيرية لحصار ومحاربة حلب ” الغربية” بذريعة أن النظام يقوم بضرب حلب “الشرقية” منها وأن معظم قاطنيها من الموالاة، علماً أن تكتيكات المقاتلين وسياساتهم هي من أفرغت حلب الشرقية من سكانها وكدستهم في الغربية أو دفعتهم إلى النزوح خارج المدينة كلياً. ناهيك عن عدم قدرتهم رؤية أن نسبة كبيرة من العلويين في المحافظات الأخرى خاصة في دمشق لاتزال موجودة وتمارس حياتها رغم المخاوف والحوادث العرضية التي تطال السوريين جميعاً.
لا ندري ما الذي يجمع السني القاتل بالسني القتيل، السني غير السوري بالسني السوري. وإذا كان ما يجمعهما هو الدين، هكذا على إطلاقه، فما مبرر تشتت الكتائب الإسلامية وخلافاتها وتناحراتها وصراعاتها مع بعضها تبعاً لولاءات اقليمية، وما مبرر أن تساهم هذه الكتائب نفسها في حصار أهل السنة أنفسهم في المناطق المحررة وتجويعهم وترويعهم عبر انتشار ظاهرة أمراء الحرب. وعلى الطرف الآخر: ما الذي يجمع العلوي القاتل بالعلوي المعارض أو المضطهد الفقير الذي يأخذون أبنائه وقوداً لحرب لا رجاء له فيها، أو العلوي السوري بالشيعي اللبناني أو العراقي أو الإيراني. حتى ذريعة حماية الحسينيات ومراقد الشيعة تم التراجع عنها من قبل دعاتها أنفسهم حيث لم تصمد أمام واقع عنيد أدى بحزب الله وايران إلى المشاركة في القتال بعيداً عن أماكنهم الدينية. وعلى العكس يعيش العلوي والسني في الساحل متجاورين يتبادلون يوميات العمل والسوق والسكن، على الرغم من ذاكرة القهر والمظلوميات والضغائن التي تنشطها جهات ومصالح وضخ مادي واعلامي يعمل على مدار الساعة. لكنها بقيت عاجزة عن تسعير الحرب بعد مرور كل هذا الوقت. وحده الحس السليم عند البشر يقف دون اشتعال الحرب الطائفية التي لم ينتفض السوريون لأجلها، بل ويلمسون مخاطرها على حاضرهم ومستقبلهم بدلالة الجارين اللبناني والعراقي. يستطيع الناس بطويتهم العفوية إدراك أن كل الذرائع التي تساق لتبرير الحرب الطائفية، هي رغم واقعيتها، قناع يخفي خلفه مصالح لدول واستراتيجيات غير معنية بهم وبدياناتهم.
مشكلة طائفية؟
في سوريا مشكلة طائفية، نعم وهي مشكلة تحولت لأزمة بفعل عوامل كثيرة تم العمل عليها منذ السلطنة العثمانية وحتى الانتداب الفرنسي الذي ابتكر مع بريطانيا وروسيا اتفاقية حماية الأقليات كموطئ قدم للدخول إلى المنطقة، كما يجري حالياً العمل عليها بالعقلية الاستعمارية المتعالية ذاتها والتي لا تستطيع أن ترى في شعوب المنطقة أكثر من مجموعات بشرية متنافرة متصارعة. لكن الصحيح أيضاً أنه في سوريا أزمات أكثر من أن تحصى: سياسية واقتصادية واجتماعية واثنية، ومظلوميات عابرة للطوائف والانتماءات السياسية، تبدأ بالأسرة وتنتهي خارج حدود الدولة!
مادامت الحرب السورية ليست حرباً طائفية بالمنحى العام، إذن ما هي هذه الحرب وما أهدافها، وما جدواها؟ هذا ما ينبغي التمعن فيه بعيداً عن التهليل لانتصارات جزئية في معارك مفتعلة بالضد من مصلحة الشعب وثورته.
30/03/2014
بناة المستقبل العدد 6