هذه “هناء”، ربيعتي. هكذا قدّمها “رائد” إلى أصدقائه في دير الزور شمال سوريا. أردف “سائد” ضاحكاً مذّكِراً بوجوده: وأنا ربيعهما! في مشهد لا يُشبه غيره: كان ليل البادية الآسر يهبط على الجسر المعلّق الذي تهتّز عوارضه الخشبية تحت أقدامهم فتكاد تُفقدهم توازنهم. يُرافقه صوت نهر الفرات الطاغي ورذاذه المتطاير عبر فراغات العوارض ومن جانبي الجسر المسوّرين بحبال متباعدة. وكان بحوزة الثلاثة، هناء ورائد وسائد، تلك المفردة العجيبة: ربيعي. سائد ورائد هما أبناء عمّ. أما هناء فهي قريبتهما التي وصلت لأول مرة إلى دير الزور بعد وفاة والدها الشاميّ. كان الأخير قد ترك لأمها “ثروة” صغيرة ووصيّة حارّة بأن ترسل ابنتهما لتتعلم خارج سورية. وهكذا قرّرت الأم أن تُمضي هناء عطلة…
-
-
القلب البستان، وحياة بحامضها وحلوها
السكاكر أو البونبون أو “الدروبوس” كما ينطقها الحلبيون، تلك الحبّات اللوزية الملّونة، كانت بهجة طفولة عائلة ممتدة من الأبناء إلى الأحفاد، شملت المعارف والجيران، وسافرت مراراً مع أقارب كزوّادة دفء يسري في خاطر كل من عرف العّم أبو عبدو “القصير”. كان قصيراً بالفعل وراضياً بلقبه الذي ضمِن له تميّزه عن سواه من آباء العبد الكثيرين هناك. سكاكر القصير كانت “فلسفة” حياة ابتكرها وسعى لتطويرها ونشرها بكل ما أُوتي من عفوية وسلاسة ومثابرة. فها هي الخضراء المشبعة بعبق النعنع حاضرة لتداوي البلعوم، والصفراء للرشح والبرتقالية لتنشيط الجسد والكرزّية للقلب الشقيّ، أما البنيّة الفواحة بالعرق سوس فكانت للمزاج. وإلى جانب وظائفها الصحية المزعومة، ومتعتها الشحيحة، فهي كانت الخيط السحرّي الذي يشد رباط…
-
تحت البلاطة
“إنصاف لابن عمّها جمال”، جملة ولدت مع إنصاف، ورافقتها مثل إعاقة أليمة أليفة لا سبيل للفكاك منها. كان جمال راضياً عما امتلكه وهو صغير، لكنه أيضاً كان زاهداً بمُلك لم يسعَ له ولم يطلبه أصلاً. فما إن اشتدّ عوده حتى لملم ما استطاع من أموال الناس المكتتبين على شقق سكنية في جمعيته الوهمية، “التضامن”، وفرّ هارباً، مشهراً إفلاس شركته، مخلفاً وراءه فواجع وجراح طالت نحو مئة أسرة تجرأت على الحلم المشاغب بالسكن في شقة مستقلة عن بيت أهل الزوج. “أخرِجوا ما تحت البلاطة”، كلمة السرّ التي التقطتها إنصاف وفتحت بها أبواب بيت المال أمام جمعية ابن عمها المزعومة. بضع كلمات آمرة واثقة تعرف “البئر وغطاه”، حيث لم يعتد ناس ثمانينات…