حسناً فعلوا أهلها حين أسموها عَيّوش. ومَن مثلها كافح ليعيش رغم المرض والفقر والظلم وقلّة الحظ من الجمال والعلم والرعاية، ومَن غيرها مَلك الرضا والصبر حتى نالَ! عيّوش الحلبية السمراء (يصفونها في حلب العنصرية تجاه ألوان البشرة بالسوداء)، ويتندرّون على ضآلة حجمها وخلّوه من التكورات “اللّحام الشاطر لا يستطيع أن يشّف منها كيلو لحم”، “قفّة (سلّة) عظام اللهم عافينا”.. هذا تصنيف القريبات قبل الغريبات. عين الحب عين واحدة أنصفتها وحمتها من شرور العالم، عين ابن عمّها الذي بالفعل لم يكن له سوى عين واحدة تبصر والأخرى مظلمة. أرادها ولم تزده معارضة الأهل إلا طلباً، فصارت له زوجة وحبيبة. لم يكن بينهما قصة عشق، لا غزل ولا شعر، لا سهر ولا…
-
-
هواجس اللاجئين وصمتهم
لا داعي أن تسأل عن السوريين في المُجمَّع. ستعرفهم بعد أول ذهول: هم الخائفون الحذرون المرتبكون الذين يتحدثون همساً وينقلون لك أبسط المعلومات بالإشارة والتلميح كما لو كانت أسراراً عسكرية! عدة عائلات سورية، وعائلتان فلسطينيتان اجتمعوا في مجمع في العاصمة الفرنسية. كان الفلسطينيون أكثر انفتاحاً لكنهم خرجوا من المجمع بعد أيام. لماذا أخرجوا الفلسطينيين وأبقوا السوريين؟ سؤال سيفتح قريحة السوريين على “التحليلات” و”التوقعات” التي تذهب بعيداً كالعادة. المحاباة ذخيرة فاسدة طالب لجوء سوري يمتدح الطعام الفرنسي مشدِّداً على الكلمات أمام كاميرا يفترضها موجودة، قائلاً: طعام خمس نجوم، هذه فرنسا أرض حقوق الإنسان! تهمس إحداهنّ: كلّ هذا المديح لأجل الرّز المسلوق، ماذا سيقول لو قدّموا له الرّز بالشعيرية؟ تنفرج أسارير الحاضرين…
-
ألبستني كشجرة.. سماور و حكايات و حب
لمحة من أمي الكثيرة لكن لن أصدّق أن أحداً بالحنين إلى يوم الخميس في سبعينيات القرن الماضي. حيث تقوم قيامة البيت قبل يوم العطلة الوحيد (الجمعة). صرير الغسالات اليدوية وبخار الماء المفعم بروائح “أدوية” الغسيل التي تتصاعد من برميل غلي الثياب البيضاء والطشوت المتعددة للتبريد والشطف والنقع بالنيلة. استنفار شامل، تُنزع الملاحف والأغطية والشراشف لتكشف عرّي المفروشات وألوان دواخلها وطراز تصاميمها، تتكوّم تلال من الألبسة بانتظار دورها الذي سيستهلك يوماً بطوله مع أعصاب الأولاد وتذمرهم من الطعام المتقشف كل خميس وضيقهم من رؤية ثيابهم العزيزة وقد رُميت أرضاً مع ثياب بقية الأخوة بحسب تسلسل الألوان دون اعتبار للخلافات البينية التي ستكسر خاطر تنورة الأخت وقد اعتلتها بيجاما الأخ الرياضية وجاورتها…
-
عن عذابات علي البدري !
وظائف الأمومة : قبل التلفاز، كانت الحكاية إحدى وظائف الأمومة، حتى أننا درجنا على نسخ مواضيع التعبير السنوية عن “عيد الأم” من كتب الإنشاء التي تزخر بتعداد موجبات تقدير الأم، فإذ بها إلى جانب سيل الخدمات التي تؤديها، لا تهمل واجبها الاجتماعي والوطني بزرقنا بحقن “الثقافة” عبر حكايات ما قبل النوم. كانت حكاياتنا مفعمة بالوعظ والأحكام. إحداها مثلاً حكاية “عروج ومروج” التي تشبه حكاية شعبية تونسية اسمها “أمي سيسي” حيث يتعاطف النهر مع القط ويجبر الآخرين كل بدوره على بذل ما يمكن لإنقاذه. أما في نسختنا السورية، فكانت العصا هي التي تنهض لتأديب الكسالى فيهرع الجميع إلى أعمالهم! وكانت الترنيمة التي ينبغي ترديدها قبل تمنّي الخير والأحلام السعيدة: العصا خرجت…
-
الخالة فطينة
“روب دي شامبر”: هي من جيل سعى إلى موت هادئ في الستين من العمر، بعد أن يتزوج الأولاد ويمتلئ صحن الدار بالأحفاد، وبعد أن تكون هي و “الحجي” زوجها جالسين على شرفة مربع “العلّية” (غرفة النوم)، يشربان قهوة العصر، وهي في ثوب نومها الفيروزي المستتر تحت “روب دي شامبر”. لا تحب الخالة فطينة أن تتخلى عن هذه التسمية الفرنسية. تشعر أن فيها نوعاً من الرفاه والإيحاء، حيث تعتقد أن مصدرها عثماني من أيام “الحرملك”! بيضاء وشقراء: نشأت فطينة في عائلة حلبية فقيرة. لم تكن جميلة، لكنها كانت بيضاء وشقراء، ما يعني امتلاكها جواز مرور ربانيا باتجاه الترقي على درجات السلم الاجتماعي. فالخاطبات يعرفن ما الذي ينفع الذكور: وجه حلو ومؤخرة…
-
عن البلد وهدر الجسد
برغم أنه فجعنا بمصارحتنا أن قمر العشاق ليس إلا مكاناً معتماً وبارداً، مليئاً بالحفر والتضاريس، إلا أننا كنا نزداد تعلقاً به وبدروسه. مدّرس العلوم الطبيعية اليساري الذي كان يجرؤ أن يتحدث عن الجسد بعد صراع دموي بات يُشار إليه بعبارة محايدة: “أحداث الثمانينيات” في سوريا، ليخبرنا أنه ينبغي معرفة خارطة الجسد قبل خارطة البلد! وهل يتحرّق المراهق إلى معرفة شيء أهم من الجسد وتحولاته؟ هيهات أن ترتوي مما تشتهي معرفته. كان علينا أن نقطع طريقاً متعرجة شائكة، نمرّ فيها على كل مخلوقات الأرض من وحيد الخلية إلى الديناصور، أن نعبر المجاري التنفسية للسمك ونحفظ عن غيب أجزاء جهاز اطراح الصرصور وطرق تكاثر النباتات، ونستبطن كل طبقات الأرض، لننتهي إلى معرفة…