يبدو العنوان “البارد”، للرواية الصادرة لدى “دار الآداب”، “ماذا وراء هذه الجدران”، لراتب شعبو، أشبه بمصيدة مهملة “آمنة” تستدرج القارئ إلى الفخ، ليبدأ رحلة التورط في اشتباك متواصل مع قيود الذات والمحيط والوجود. سيرة سجين سوري شاب في بداية العشرينات تقوده خطاه إلى الجحيم. لا يشرح الكاتب كثيراً عن تنظيمه السياسي وربما يحسب ذلك للنص، حيث تتضاءل كمية الايديولوجيا والتبشير وتبرير الذات، لصالح المشترك الإنساني المتمثل في مسيرة شقاء الفرد وعذاباته وتشظيه في ظل الأنظمة الاستبدادية.
عبر مسار من السرد الحكائي المتسلسل، يمضي بك في أنفاق الظلم والظلام، لتجد نفسك مجبراً على تجييش حواسك كلها، كي تستطيع عبور النفق، النص، الذي لا يضمن لك الخروج منه من دون إصابات مباشرة في الضمير والوجدان. يقوم السرد على محاور ثلاثة: التوثيق، الأسئلة الوجودية ، والحكاية – السيرة بتفاصيلها ويومياتها. ويقدم نفسه بأسلوب بسيط متواتر يتصاعد مع تصاعد الحدث ذاته. فالكاتب غير منشغل بتقنيات الكتابة التي تبدو فائضة على حاجة مأساة واقعية تفوق حدود الخيال والصنعة. يعتبر أرسطو أن الحبكة للمأساة بمنزلة الروح من الجسد، وفي مأساتنا هذه تكاد تختلط الروح مع الجسد. إنها مأساة الوجود الإنساني بكليته، في صراعه المستميت مع جسد القوى الباغية وروحها المدمرة للحياة وموجوداتها. الحبكة هنا هي حالة الحرب اليومية على السجين الوحيد المعزول المستفرَد به أمام جبروت الطغيان الذي يتجسد ويتناسل بأشكال وآليات تستعصي على المنطق والغاية. ينشغل راتب شعبو بفهم آليات صناعة الوحوش والعبيد في السجون ويعمل على تفكيكها بلغته الخاصة. اللغة عنده ليست وسيلة للتعبير فحسب، بقدر ما هي وعاء لفكر يسعى لاحتواء ما تنتجه مصانع الاستبداد من تنويعات الوحشية والإذلال الجسدي والنفسي. لغة مشبعة بالموروث الديني والشعبي والثقافي والاجتماعي اليومي المتنوع، ما يحيل على دور الذخيرة الفكرية في مقاومة أشد أنواع الاستبداد بدائيةً وانحطاطاً. وعلى رغم تماسكها وشحنتها الفكرية، تجد مفرداتها مألوفة يومية مبذولة بسخاء محسوب ومضبوط على ايقاع الروح – الحبكة التي تبتكر ما يشد أزر الكلمات جنباً إلى جنب في أخوة ودودة متساندة متواشجة، تجسد وحدة البشر وأخوّتهم في وعي الكاتب واحتمائه بهذه الأخوة، في مواجهة مفاعيل السجن ودأبها على تذرير السجين وصولاً إلى سحقه.
ستة عشر عاماً في السجون السورية، امتحانات وخبرات تطرح نفسها في شهادة على عالم الرعب المغلق: شهادة هادئة متوازنة، سكّرُها الباسم الساخر مرّ، وعلقمها المتوحش المهووس بتفتيت الإنسان وهدره يحلو بشغب قلب يتمسك بأهداب الحياة، ونبض طفلي يتشاقى وهو يبعثر أسئلة الوجود: “ما هو سر لذة العودة؟ العودة إلى البيت، العودة إلى الرحم، إلى جنة مفقودة؟”. شهادة تطرق أبواب الخوف والتجاهل والتخلي لتقول: ها أنا أخبركم، فما أنتم فاعلون! اصطادني السجن فتصدّيت له بكل طاقتي، لكنه اخترقني، رضعته وامتص رحيقي. السجين هنا يفرش جسده وروحه وعقله على أرض الإنسانية التي غفلت عنه. يريد أن يستوطنها، أن يستعيد مساحته منها، أن يجمع صرخته إلى آهاتها. ها أنا أروي حكايتي: لست بطلاً لأحرركم ولا رسولاً لأفتديكم، ألمي الكثيف هو ألمكم الممدد وقهري هو العار الذي يجللنا حيث يتضخم وحش الاستبداد ويوغل في نهشنا كلما تمادينا في صمتنا. ها أنا أنسل نفسي أمامكم قطبة قطبة، بعدما وخزتها إبر سجون “الشيخ حسن”، و”عدرا”، و”تدمر” الرهيب، وتركت فيها ثقوباً وندوباً. دعونا نكتشف سر العروة التي توثقنا، علها تستر عرينا الإنساني: “الحديث عن السجن ليس نكأً للجراح أو تقليباً للمواجع. ليس هزيمة وإن كان فهي هزيمة نبيلة، هزيمة مجتمع عجز عن حماية أبنائه، وهزيمة للفكر السياسي الذي أباح استخدام كل هذا الهلاك ضد معارضيه”.
لست ضحية وإن هزمتُ فهزيمتي نبيلة! إنه صوت من يقبل التجربة ويعترف بالألم كممر اجباري لولادة الذات. صوت الحكمة المتجردة المراقبة وهي تحتفي بنجاة سجينها وقد ازداد متانة وتراصاً ورهافة. في هذه المعركة العجيبة بسورياليتها ودونكيشوتيتها، يحدث الكثير من المعقول: أن تتدمّر الذات “الاستدمار – من اسم تدمر – ليس أن تنحني أمام قوة عدوانية، بل أن تتكسر وتبدأ نفسك بالتعود على ذاتها كضحية”. كما يحدث اللامعقول: أن تلتقط هذه الذات أكثر العناصر وفرة في السجن لتبتكر منها غذاء للعقل: “ربما كان من فضيلة الخوف والقلق أنهما يحرسان العقل من التفكك!”، وأن تهضم وتطور آلياتها وعاداتها مع أن “تدمر مربع الخوف والبرد والجوع والإهانة. الجوع جيش لا يهزم”. وأن توظف اللعب والمرح والسخرية أدوات للتحمل والتكيف والاستمرار: “شعور السخرية الذاتية، هذا الطائر الرحيم، يرفرف فوق هاوية خيبتنا السحيقة”. وأن تسائل القهر: “تدمر مقبرة الأحياء”، وتجاور العبث: “في الليل نحن جثث متجاورة غريبة. على أحشائك أن تتمثل مفهوم الجثة! في شرح الزامية وضع الطمّاشة على العيون وعدم الحركة ومنع التبول”، وتحتمي بالنايلون والبلاستيك “تدمر مملكة الحضارة البلاستيكية”، وتحتفي بلحظة اعجاز ينبلج فيها الصباح حاملاً معه أمل ومتعة “الدخول الشرعي إلى التواليت”، وأن تستجدي لمسة دفء من جثة شجرة وتبثها نجواك: “أترك بشرتي تتحسس الخشب. النباتات تشعر بألم الإنسان”. في تدمر لا تبرد الحرب، بل يحارب بردها بشراسة مع نظائره: اغتصابات يومية للكرامة الانسانية: “الحارس يأمر أحدهم بنقل الأحذية بفمه”، وسحق للروح: “حين تبتلع إهانة أمّك لتنكسر وتردد ما يتلى عليك في امتهان زوجتك”، وخنق الحلم: “أصبحنا نأمل الرجوع إلى سجن عدرا، تصبح الحرية ذكرى بعيدة وأمل بارد”، وهدر للجسد: “مثل سلحفاة عارية من قوقعتها بين ثلة من القطط الشرسة”.
لكنها النفس المعذبة لا تبرأ من غصة مقيمة تلوي عنق الروح كلما عانقها شوق الحرية، فتزفر سؤالاً أقرب للاعتراف: “خرجت من السجن لكن هل خرج هو مني؟”، “بكيت في الحلم. سجن تدمر يخمد القلب ويحرق الدموع”، “السجن آلة عمياء لا تروض ولا تواجه. الاستحباس، نسيان السجن، التكيف معها وتلافي بطشها”، “الخوف ينمو في دمنا كالفطر، جفّ ريقنا كما تجمد الطيور في أرضها حين تشعر بوجود باشق في السماء”، “ليت الإنسان بلا قدمين. ليت الفتى من حجر”، “أيهما أكثر تطرفاً التصفية أم الردّ إلى الهمجية؟!”، “ليس لك سوى الصبر، جدار أخير تتكئ عليه أو هاوية سحيقة تبتلعك”. على أننا حملنا أنفسنا وحمّلناها وتحاملنا عليها وولدناها وربيناها وقهرناها بالجوع والجور والكبت والصبر كما يليق بناسك خاشع قابض على الجمر غير طامع إلا ملاقاه قبس من وجه ربه: الحرية، التي نحن عشاقها وشهودها وصانعوها وربما ضحاياها وقرابينها.
لا يمكن الإحاطة بنص كثيف وعميق ومختلف، في هذا الحيز المحدود، كما لا يمكن عبوره من دون الإشارة إلى خفاياه وتلميحاته، وخصوصاً تلك المتعلقة بالحب والجنس والمرأة، المواضيع الشديدة الحساسية والوطأة على سجين (وسجناء) في أوج الشباب، يتطرق راتب شعبو إلى هذه الجوانب لماماً ويكتبها “بممحاة” كبيرة لاعتبارات اجتماعية وشخصية ربما، ما يثير شهية التفكير والتحليل والمعرفة.
“ماذا وراء هذه الجدران” تجربة اعتقال سياسي مديد، نجا منها الكاتب ببقايا جمرات أودعها نصه، سيرة تكثف وتشرح سيرة سوريا الثائرة على الاستبداد وهي تمضي في صراعها المرير لأجل الحرية والكرامة.
2014
النهار