سقف الوطن
شاعَ استخدامُ مصطلح «سقف الوطن» في سوريا بعد الثورة 2011، بفضل إعلام النظام وسياسييه ومنظّريه، حيث جرى تحديد وفرز السوريين على أساس أن كل من يقول بالاصلاحات الشكلية يمكن قبوله تحت سقف الوطن، أما المطالبون بإصلاحات جذرية والمشاركون بالثورة فهم خارج سقف الوطن، أي عملاء للخارج العدو الشرير، وبالتالي يستحقون معاملة الخونة!
مطلع آب الماضي اعتُقلت الصبية لانا مرادني، ابنة أصدقاء عانوا سابقاً من الاعتقال، كتبت أمها أنها سعيدةٌ لأنها تستطيع أن تُخبر الناس عن اعتقال ابنتها، ولأن الأصدقاء لا يتنكرون لمعرفتهم بها. يُذكر أن الصبية لانا مهندسة معلوماتية تعمل مع اليونسيف من أجل تعليم أطفال الغوطة المحاصرة قرب دمشق.
هل لكم أن تتخيلوا هذه النعمة! نعمة أن يجرؤ أحبتكم على إعلان تضامنهم الإنساني معكم؟!
هي نعمةٌ حُرِم منها جيل سجناء الرأي في عهد الأسد الأب، هذا كان نصيب عائلتي أيضاً، والأقسى أنه كان حال ابنتي ديانا التي ولدتُها في السجن، وطالما عانت من هجر أصدقائها لأن أهلهم يخافون على أنفسهم، ويخشون هول التهمة التي ستتسلل إلى أولادهم الصغار عبر هذه الصداقة. مضى وقت طويل كانت فيه ديانا تخشى أن يعرف الناس مكان ولادتها لمجرد أنه يرتبط بالسجن.
في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، دفعت عائلتي أكثر من أربعين سنة سجنٍ توزعت علينا، ليعود أخي مراتٍ أخرى إلى السجن في عهد الابن، ولم نسلم من الاستدعاء والتحقيق ومنع السفر والحرمان من العمل. كان سقف الوطن واطئاً ومهيناً، هذا السقف المصمم لتحويل سوريا إلى مقبرة كبيرة، وإلى سجن أكبر. هو السقف ذاته الذي جعلَ السوريين يتمردون وينتفضون في آذار 2011، وهو الذي يقودهم اليوم إلى المخاطرة بحياتهم ومدّخراتهم في سعيهم عبر مجاهيل البحار والغابات هرباً من ويلاته.
يحدث تحت سقف الوطن
داريا، بلدة الزراعة والمهن اليدوية، خاصرة بلدتي صحنايا وكبدها الذي يغذيها مع ما حولها، موطن غياث مطر، الشاب الذي أهدى الجيشَ الورود فقتلوه دون رحمة على مرأى من المتظاهرين السلميين. حُوصرت داريا، فحُرمنا من الخبز والحليب واللبن والخضار. إحدى النازحات كانت تحدّثنا بحرقةٍ عن بقراتها اللواتي قُتلن برصاص قناص ضجِرٍ مستهتر، وعن دجاجاتها اللواتي يمتن بسبب البرد ونقص العلف، وكنا نتحايل على أطفالها الصغار الذين يبكون ليل نهار طلباً للحليب، فنعرض عليهم ماء الرز المسلوق أو النشاء المغلي مع السكر وكانوا يرضخون بقهر. في الجهة الأخرى من الغوطة كان الأهالي يسفحون الحليب على الطرقات، ويرفضون وصوله إلى قلب العاصمة رداً على حرمان النظام لهم من الخبز والدقيق والكلور المعقِّم للمياه! إنها فظاعات الحرب وجنونها، وفي الحروب لا يُلام الناس على ما يفعلون.
في شهادة أحد طلاب البكالوريا من معضمية الشام، التي شهدت مجازر عديدة وترضخ حالياً لهدنة قاسية، يحكي الشاب كم يهدرون من الوقت على الحاجز ذهاباً واياباً ليتم تفتيشهم خشية أن يُدخِلوا بعض الطعام إلى البلدة، حيث يُسمَح للطالب أن يدخل معه علبة بسكويت واحدة كطعام يفترض أن يسد حاجته إلى اليوم التالي، حسب خطة الحرب المعمول بها في سائر مناطق الاشتباك «التجويع للتركيع». هذه الحرب التي تُستخدم فيها خميرة الخبز -مثلاً- كأداة قتل بطيء، حيث يُحرم الناس من طعامهم الأساسي.
إنها فظاعات الحرب وجنونها، وفي الحروب لا يُلام الناس على ما يفعلون.
ابنتي وكثيرٌ من زملائها اضطروا إلى التغيّب عن الامتحانات الجامعية بسبب قطع الطريق، ومرات كثيرة ذهبوا سيراً على الأقدام، وهم بكل الأحوال كانوا أوفر حظاً من زملائهم الذين قُتلوا بقذائف عشوائية على كلية العمارة في دمشق.
للمرة الثانية خلال عامين يستنجد أطباء مدينة دوما في ريف دمشق بغية وقف القتال، لأجل هدنة بين المتقاتلين تُفسح المجال لإخلاء الجرحى ودفن الضحايا، الصور التي تصل من هناك تُظهر الأطباء يجرون العمليات الجراحية بوسائل بدائية، ودون تخدير أو تعقيم على ضوء هواتفهم النقالة!
وفي مناطق الاشتباك يجترح الناس معجزاتهم وأساطيرهم اليومية للبقاء على قيد الحياة، يعملون ويدرسون في ظروف تعجيزية قاهرة. للسنة الخامسة تنشغل بلدات الغوطة في ريف دمشق بتأمين طعامها وخضارها ومياهها، وستظل أحسن حالاً من جاراتها التي دُمرت وحُرقت وقُتل أهلها بالكيماوي والبراميل والقذائف. ناهيك عن الاعتقال والخطف والاصابات والاعاقات.
ليته يعود ولو جثة! هذه آخر آمال الأهل الذين أنهكهم انتظار حلّ ما أو هدنة أو صفقة تبادل ربما، وأُجبروا على النزوح واللجوء (في سورية اليوم أكثر من ثمانية ملايين إنسان نازح داخلياً، وما يزيد عن أربعة ملايين لاجئ في مخيمات بلدان الجوار وشتى بقاع العالم). وهم ببساطة يشكلون نصف عدد سكان سوريا الـ 22 مليون.
للسنة الخامسة على التوالي في بلدي حرب لم تهدأ يوماً أو ساعة، الموت الوفير بات خبراً اعتيادياً على هامش النشرات، لقد تنحى لتتصدر تنويعاته الغرائبية أخبار العالم من الموت غرقاً في البحر أو خنقاً في شاحنة أو احتراقاً واختناقاً في المخيمات، ناهيك عن داعش وارتكاباتها الهوليودية بحق المدنيين العُزَّل.
المنفى
كانت المرة الأولى التي أخرج فيها من «سقف الوطن»، فقد كنت ممنوعة من السفر. منذ اللحظات الأولى بدأت تتنازعني مشاعر متناقضة: شعور النجاة من قبضة الاستبداد بكل صنوفه، ولذة اكتشاف المدى بلا سقفِ، المشفوع بشعور رهبة الانكشاف. وحيدةً بذاكرة مدّماة أمام عالم غريب يملي عليّ إعادة النظر في مجمل معارفي، وإعادة تعريف نفسي، من أنا؟ وماذا أريد؟
أمضيتُ عامي الأول في مجمّع للاجئين في ضواحي باريس، من كل بقاع الأرض المغضوب عليها بالحرب والفقر والاضطهاد أناسٌ يأتون ليجربوا حظهم في حياة أفضل. كثيراً ما يسألنا الفرنسيون: لماذا اخترتم فرنسا بلداً للجوء؟ معظم اللاجئين يجيبون بما يتوقعون أنه يُرضي «السلطات» من قبيل: أن فرنسا بلد الحريات والمساواة والعدالة. نحن ضحايا حرب الاستبداد الطويلة، الحرب الباردة والحارقة، نخاف! يُؤلمني أن السوريين أكثر اللاجئين خوفاً وألماً وحسرة، يخشون التعبير عن رأيهم في نوعية الطعام، وفي روتين الأوراق وفي تعقيدات اللغة الفرنسية.
نحن لم نختر فرنسا. ببساطة، لأننا هاربون، وليس للهارب خيار! ربما كنت سأنتهي إلى واحدة من غرقى البحر، حيث لم يكن أمامي خيارٌ آخر فيما لو رفضت السفارة طلبي اللجوء.
التمزق بين هنا وهناك
أن تُطرد وتُبعد قسراً عن بلدك، أن تتوّسل النفي سبيلاً وحيداً للوجود، تجربة عنف اقتلاع نفسك من مكان ورميها في مجهول مهما بدا مريحاً هادئاً، هي تجربة محفوفة بالمخاطر وفوقها الشعور بالإثم، إثم الترك والتخلي في وقت المحنة. والشعور بالخيبة والهزيمة، أنني كإنسان عجزت عن التحمل، وأنني خسرت حلماً وإمكانية تغيير وربما خسرت مصداقية الرأي والتعبير، إذ هل يحق لي أن أتحدث عن الحياة والحرية وقد هربت من دفع ثمنهما؟
ذاكرتي تشقيني، ومن دون ذاكرة من أنا، ولأي شيء أسعى؟
المنفى أن تعيش هذا التمزق كل يوم، ألّا تستقر على حالٍ من الرضى أو السخط على نفسك وعلى خيارك، أو على الوضع الذي وُجدت فيه. كان المنفى ومازال أحد عقوبات الاستبداد تجاه مقاوميه: أن يُحكم عليهم بهذا العذاب، بتجربة التشظي بين هنا وهناك، بين ضغط النزوع البشري إلى الاستقرار والتعافي وحق الحياة الهادئة، وبين نزف الكرامة المُهانة التي لا تستطيع أن تركن إلى إذلالها، فتغذي نفسها بأمل العودة واستعادة الفقدانات، وأولها كيان الفرد ومكانه تأسيساً لمكانته.
أن تخسر بلدك، تجربةٌ لا تتعلق بالمكان الذي ربما أكون محظوظة بالعثور على بديل له هنا في فرنسا، ولا بفُرَصِ حياةٍ ربما ستكون أحسن مما أُتيح لي في سوريا. خسارة البلد هي أمّ الخسارات، حيث بنقلة قدم واحدة تجد نفسك معلقاً على هاوية انعدام اليقين، ليس بما كنت تؤمن به فقط، بل بما كان راسخاً حقيقياً مادياً وملموساً من قبيل أن لك وطن وبيت وأقرباء وحيّ وأشياء خاصة. أن أكون سوريّةً، هذه إحدى بديهيات وجودي، اليوم أحتاج إلى تعليل، إلى شرح وتفسير وإثباتات، خاصةً بعد أن جرّفت الحرب كل دليل، فلم يبقَ لي بيتٌ أعرفه ولا شارع آلفه، لقد دُمرت بيوت أهلي وأقربائي في حلب وتهدمت الأسواق ونُهبت، وماتت الأشجار التي أحبها وتشتت الصحب والأحبة بين السجون والمنافي والانحيازات، تفرقت عائلتي في كل مكان، وبت أخشى أن أفقد لغة التخاطب مع أولاد اخوتي الصغار المبعثرين في ألمانيا وتركيا ومازلت أتواصل معهم عبر الصور والرسومات، يوماً ما لن أستطيع أن أكتب لهم بالعربية التي أحب، لأنهم لم يعرفوها!
وفي المنفى، عليك أن تختار وأنت المُحتار: بلد اللجوء ينتظر منك أن تندمج وتكون مواطناً سوّياً أسوة بمواطنيه، الأمر الذي وأنت تحاوله يُشعرك «بخيانة» أهلك وبلدك، وهو بكل الأحوال طريق شائكة لن تتقدم فيها بسرعةٍ ما دمت تضبط إيقاع حياتك على وقع خسارات أهل بلدك وجراحهم وساعات تقنين الكهرباء عندهم، وما دمت تؤجل المكالمة التي وعدت بها أمك ريثما تلّفق كذبة ما عن لقاء محتملٍ تعرف أنه لن يحدث، ومادامت الجالية السورية مشتتة الأهواء والأهداف، والسوريون من أمثالك متعبون وقد أنهكتهم الانقسامات والخلافات والمرارات. عليك أن ترّتب أولوياتك لوحدك: هل أتعلمُ اللغة الجديدة أولاً أم أتناسى ما حدث وما يحدث؟ أين سأسكن؟ وأيهما أوفر، الفرش الجديد أم الفرش المستعمل على المدى الطويل؟ هل قلتُ المدى الطويل؟ كم سيطول؟ ألن أعود؟
فكرة العودة أساسيةٌ لتهدئة خواطر قلق الوجود ومحنه وتعثراته، فنحن نعود إلى البيت والحبيب والأم والوطن، بل ونعود إلى الحياة بعد الموت! وهكذا تضمن لنا مفوضية اللجوء حق العودة عندما تنتهي الحرب في بلادنا.
منذ أكثر من ستين عاماً تساءل الفلسطينيون: هل ينبغي أن يكون المنفى ممراً أم مقراً؟!
تقول التجارب البشرية أنه في معظم الحالات لا يعود إلا قلة من المهجرين قسراً إلى بلدانهم الأم، ما يرّتب علينا أن نبحث في خيارات أخرى أيضاً: ما الذي يمكن أن نفعله لبلدنا الأم ونحن هنا، وما الذي ينتظره منا الفرنسيون الذين نعيش على مساعداتهم؟ وهل ينبغي للفرد أن يكتفي بوطن واحد؟ وأيهما هو الوطن: هل هو المكان والعلاقات التي تحتاج جهود الفرد القادر على البناء والتفاعل والعطاء؟ أم هو المكان والعلاقات التي يحتاجها الفرد ليحتمي بها من وحدته وضعفه وحاجاته؟ هل الوطن قدرٌ أم اختيار؟ هل هو سقف الديكتاتوريات أم هو فضاء المواطنة؟
هل يحق لي أن أتحدث عن الحياة والحرية وقد هربت من دفع ثمنهما؟
حتى الآن تحدثت عن متاعب المنفى وقسوة امتحاناته، وهي كثيرةٌ دون شكّ بالنسبة لهاربين من حربٍ شعواء ينشدون البقاء. لكن للمنافي جانبها الآخر، خاصة وأنه يصدف أننا نتحدث عن منافٍ هي بلدانٌ ذات حضارات عريقة وأنظمة ديمقراطية تعتمد حكم مؤسساتٍ وقانون ومجتمعات مدنية تؤمن لنا كثيراً من فرص التعلم العياني المباشر، كما تفسح المجال لرؤية أوضح وأشمل لمشكلاتنا وقد ابتعدنا عن نيران الحرب وضغط يومياتها، الذي لا يمكن أن يكون بيئة مواتية لولادة أفكار وحلول مقبولة.
ابتسامات مُكلفة
أول ما لفت انتباهي منذ وصولي باريس هو ابتسامات الفرنسيين، حركاتهم وردود أفعالهم الهادئة عموماً. بالصدفة كنت قد اشتغلت في تحرير زاوية «صحف أيام زمان» في أحد المواقع الالكترونية في سوريا، ما أتاح لي الاطلاع على مجلةٍ ورقية قديمة حملت اسم «يوميات الحرب العالمية الثانية» كنتُ قد قرأت فيها بالإضافة إلى تفاصيل المعارك والخطط العسكرية وأعداد القتلى والجرحى وأوضاع الجنود… إلخ، قرأتُ يوميات الناس وحرماناتهم ونقص الألبسة والأطعمة ولوعتهم على فراق أحبتهم وعلى مدنهم المدمرة، وكانت بعض الصور تتحدث عن المرض والإعاقات والعوز، رأيت فيها الخوف والحزن والصدمة وكل ما تثيره الحروب والكوارث في النفس البشرية. كان اكتشافاً بالنسبة لي أن أجد الفرنسيين اليوم وقد تعافوا من جراحهم العميقة! أخذتُ أكتب إلى أصدقائي في سوريا بأمل دفّاق: الفرنسيون يبتسمون لأنهم مطمئنون إلى أن الحرب والمرض والجوع والاستبداد والعنصرية أصبحت أشياء من الماضي، مدفونة هناك في كتب التاريخ بعد أن دفعوا ثمنها غالياً، وقرروا ألا يلجؤوا إلى الحروب كوسيلة لحّل التناقضات، ونحن أيضاً سيكون لنا ابتساماتنا التي ندفع أكلافها.
لكن حكومات الدول القوية ترسل رسائل مختلفة لشعوبنا المُضطهدة عندما تتغاضى عن الديكتاتوريات، وعندما تتلكأُ في مواجهة الاستبداد وتغض النظر عن مافيات تهريب البشر وتتساهل مع تجارة السلاح وتسلل الجهاديين إلى بلادنا (عدد الأجانب منهم يفوق 80 ألف مقاتل)، عندما تنفق الوقت والجهود والأموال في محاولة دمج اللاجئين في مجتمعاتها، وبعضهم لا يستطيع أو لا يريد أصلاً أن يندمج.
إن كلفة انهاء الحرب والقضاء على الاستبداد في سوريا أقلّ بكثير من كلفة تحمّل تبعاتهما على كل المستويات. فرنسا اليوم هي بلدي الذي لا أريد له (ولا لغيره) أن يعاني من ارتدادات الظلم والقهر وانسداد الأفق أمام البشر، أريدُ لابتسامات الفرنسيين أن تعمَّ لتشمل بلادي، لا العكس، الذي أخشى أن يحدث ما دام العالم واحداً ومترابطاً وشديد التأثر ببعضه.
لبلدي السلام والحرية
وعليكم السلام
2015