ينبغي أن تغيب عن قلب مدينة دمشق قليلاً لتراه، فتراقب حركة الدوامة، عمقها واتساعها وسرعتها، تتوغل بين المارة – الشعب-. وجوه بين الشرود والذهول، أخرى تلوك لقيمات سندويشة تصغر وسعرها يكبر، صبايا وشبان يصرخون ويتضاحكون بتحدٍ مستفز، أناقة مبالغة ورثاثة لا مثيل لها يتجاوران للحظات وسط المدينة، متسولون ومتسولات من كل الأعمار، بسطات تبيع فراشي الأسنان المستعملة مع الدبدوب المتّسخ وطناجر الطبخ القديمة وكتب مغبرّة.
حواجز جديدة تنبت كالفطر:
لا جدوى من حفظ جغرافيا السير في دمشق، بين ليلة وضحاها تتغير الطرقات، بضعة أكياس إسمنت وعسكر يقطعون خط السير بإشارة من روسياتهم. أصوات قذائف بعيدة تأتي من قاسيون. على الإشارة المرورية تقف شاحنة لنقل الجنود بأسلحتهم، أعابث جندياً يبتسم بلطف: «الله ياخدك… لعند أمك»! تفتح الإشارة وتسرع الشاحنة وهي تسوق الجندي إلى الحرب، لكنه يبقى متشبثاً بنكهة حلم يبتعد مع صوته: «ادعي لي الله ياخدني لعند خطيبتي»!.
من جسر الرئيس، قلب المدينة المنهك، باتجاه أبو رمانة والشعلان والجسر الأبيض، آلاف البشر تسعى، لا داعي لأن يفكر الشعب بشيء، عليه أن يسلّم نفسه للدوامة وستتكفل به، توقظ رغباته وميوله وتصنع إراداته وحاجاته. كيف له أن يتجاهل روائح الطعام والعمال يلبّون طلبات الزبائن لاهين عن عيون الطفلة الجائعة اللجوجة. محظوظ هذا الشعب! رغباته موزعة على الطرقات، حاجاته مدروسة بعناية، وملباة: بجانب محل الشاورما، محل البوظة والحلويات، وبعده محال النسكافيه والكرواسان. وبعده، وبعد فتح شهيته على الاستهلاك، محال متلاصقة تغص بالبضائع التركية والأجنيبة المستوردة. أسعار جنونية وحمى شراء وباعة نزقون مترفعون عن مسايرة الزبائن الجدد الذين يشبهون زبائن الأسواق الشعبية، بفارق محافظهم المتخمة بالنقود وأصواتهم الآمرة المتعجرفة المتعجلة إشباع النهم المستبد لشراء المزيد أياً يكن.
السوق في دمشق:
يبدو السوق مكاناً لتجمع الناس، لتبديد قهرهم ونزواتهم، لتلوين حياتهم، للهرب من عزلتهم وخوفهم، لمراقبة ماذا «يطبخ تجار الشام»! غالبية الناس لا تشتري، تكتفي بوضع (لايك) على طريقة «الفايسبوك»، لكنها (لايك) واضحة حارة تراها مندهشة أو متحسرة، أو فرحة مزهوة تؤسس لقصة مسلية تروى في صبحية الغد مع الجيران. البعض لا يمنع نفسه من (الكومنت) التعليق الساخر: «على أساس عاملين علينا حصار اقتصادي، كيف تدخل كل هذه البضائع الأجنبية؟». رجل يحمي بناته الثلاث شاكياً: «أســــتغفر الله لم يعد لنا غير الموت (ببلاش) مجاناً، وآخرون يزفرون بقنوط متشفٍ: انشاالله ينزل برميل (متفجر) يخلصنا من التجار الحرامية!». صبايا مرحات ينظرن بحسد الى مثيلاتهن وقد خرجن بالكثير من المشتريات يتضاحكن صائحات: «عملولنا (شير ـ مشاركة) صبايا والأجر على الله!».
في بلد بات العيش فيه شبه مستحيل حيث يعتبر من أخطر بلدان العالم، يصعب أن تفهم أي قوة، أي اغراء وأي هوس يجعل أولئك الصبايا وأمهاتهن يقبلن على الملابس الداخلية، يتفحصنها بنظرات مفترسة تطلب امتلاكها بثمن يضاهي افتتانهن! ترى، هل هو الموت المتغوّل يوقظ شهوة الحياة؟ ولمَ تقتصر شهوات الحياة على الطعام والملابس المثيرة؟ هل لأن الجسد هو المهدد بالفناء في هذه الحرب؟ أهو الرعب أم اليأس؟ أصوات القذائف تقطع تداعياتي وتلفتني إلى حمى شراء حرّكتها القذيفة ربما! وكأنها اشارة خفية تحض على المغامرة والتخلص مما تبقى للناس من وسخ الدنيا – النقود، ليستبدلوها بنظافة ما على هيئة طعام أو ثياب داخلية.
أتذكر سوق التنابل في الشعلان، أعود لتفقده، لا يزال صامداً في مكانه حيث الخضار المقطعة والمجهزة لربات المنازل المتشاغلات منهن والمنشغلات بأعمالهن خارج المنازل، نساء نازحات مع غفير من الأولاد بحالة مزرية يتبادلن أطراف حديث في محاكاة غافلة عن خطاب الحركات النسوية الوفيرة هذه الأيام: «الحمد لله ارتحنا من همّ الطبخ والبيت وشغل البيت!».
أتمعن في الوجوه متسائلة: ترى، من هم أبناء الطوائف، كيف لي أن أعرف سكان المدن من سكان الريف؟ حيث تختلط الأصوات متعالية بكل اللهجات السورية على الجوالات، الجميع يهاتفون أولادهم وذويهم وبيوتهم يتبادلون أخبار الطرقات والحواجز والهدنات العسكرية وإمكانية العودة ويهللون ويباركون الحصول على اسطوانة غاز أو تأمين بنزين السيارة والوصول إلى الجامعة بوقت قياسي لم يتعدَ الساعتين. الآليات العسكرية تقطع الناس عن حياتها، وآليات الاتصال الخليوية توصلها، كل شيء بنظام!
دمشق المزدحمة بسواتر الإسمنت والوجوه الكئيبة والمقطعة الأوصال بالعسكر والشرطة ولجان التفتيش، تبدو هرمة رمادية مترهلة مفككة وساهية عما فيها. لا ياسمين هنا ولا ربيع، على رغم بضع نبضات شابة تحاول استيلاد ربيع قسري عبر رسوم جدارية بهيجة، وعلى رغم اعلانات الشوارع عن حفلات غنائية وعرض مسرحي يتيم. وعلى رغم القرار الرسمي بطلاء أبواب المحال التجارية بألوان العلم ونجمتيه الخضراوين.
04/03/2014
الحياة
لقراءة المقال الأصلي اضغط هنا