في بداية الثمانينات من القرن الماضي، سُحقت حركة الاخوان المسلمين التي تصدرت موجة الاحتجاجات ضد النظام السوري، وبدأت سلطة الأسد الأب تستشرس ضد كل معارضيها دون استثناء، آلاف الرجال والنساء اعتقلوا، اختفى عدد غير معروف من المتهمين بالانتماء إلى تنظيم الاخوان المسلمين. وواجهت كل الأحزاب قمع نظام الأسد الأب بعد أن خرج منتصراً على معارضيه ومناهضيه بمساندة وصمت دوليين.
أنا ابنة ذاك الجيل، جيل آلاف الضحايا والمعتقلين والمفقودين في الثمانينات، الجيل الذي تجرّع صنوف الوحشية ألواناً لم تزل مطبوعة على أجساد بعض المعتقلين كأذيات جسدية واضحة، أو كتطويع للجسد والارادة (وهذه الظاهرة منتشرة أكثر بين معتقلي الاخوان المسلمين الذين تعرضوا لتعذيب عنيف طويل ومنهجي وقضى معظمهم فترات طويلة في سجن تدمر الرهيب، حيث تجد الرجل منحني الظهر، لا ينظر في عيني محدّثه، مرتبك النطق وعديم التعبير عن الانفعال..).
نعم أنا ابنة الجيل الذي عرف سرطان الاستبداد وسمّه الذي يفتك بالضحية شيئاً فشيئاً لينتقل بالعدوى إلى محيطها كلّه. الطاغية في بلدنا لا ينال من معارضه الفرد فقط، إذ يعتبر أن مجرد التفكير بالمعارضة تهديداً لسلطانه، ولذلك يسعى إلى استئصال أي معارضة وكل معارضة، هو صاحب نظرية “البيئة الحاضنة” وهو محطم هذه البيئات فعلاً.
كنت مطلوبة للاعتقال على خلفية انتمائي لحزب العمل الشيوعي المعارض، كان رجال الأمن لا يكّفون عن ملاحقة أختيّ الباقيتين بمنجاة عن الاعتقال (وقتها كان لدي ثلاثة اخوة شباب وأخت صبية في سجون الديكتاتورية) كانوا يستدعون والدتي ويضغطون عليها لتوّقع على تعّهد بتسليمي إن اتصلت بها، لم يوفروا قريباً لي إلا واستدعوه وحرضوّه ضدي، ذهبوا إلى جدي وهو امام جامع وكانوا يلفقون قصصاً تتناسب وخيالاتهم المريضة والأهم أنها كانت تصطدم بقسوة مع قناعات وعادات مجتمعي المحافظ، وبعد اعتقالي وكنت حاملاً ماطلوا كثيراً في نقلي إلى المشفى للولادة متمنين صراحة الموت للجنين لأنه “لن يكون أكثر من معارض مثلي”! واضطرت أكثر من مرة أن أشرح لقاضي المحكمة الاستثنائية أنني أنا السجينة والمعارضة وليست طفلتي التي كانوا يضيقون عليها خلال تنقلها بيني وبين والدها، وكلما احتاجت إلى مراجعة الطبيب، والتي نادراً ما استلمت ألعابها سليمة من شرور انتقامهم!.. عانى زوجي من الاعتقال والتعذيب ثم الاستدعاءات المتكررة والتضييق في عمله ومنعه من زيارتي ثلاث سنوات… وحُرمت أختي من العمل سنوات عديدة بسبب معارضة اخوتها، ومُنع أخي من متابعة اختصاصه في الطب بسبب معارضته السابقة…أما أنا وأخي الأكبر فقد حُكم علينا بحرماننا من حقوقنا المدنية. ما يعني أن نبقى دون عمل وكنا ممنوعين من السفر.. الخ التفاصيل أكثر من أن تحصى: فحواها تسميم الحياة، تحطيم كل سند وكل امكانية للنهوض والاستمرار.
عملياً احتجنا ليس فقط للشجاعة والصلابة والوعي لننجو من التحول إلى وحوش، بل قبل كل شيء احتجنا إلى الكثير من الطيبة وحس السخرية ربما، وإلى الشغف بالحياة والايمان بالحرية والعدالة. لكن وفي سياق كل معاركنا اليومية والفاصلة، في كل لحظات جراحنا المرئية والعميقة، رغم أننا نفهم ما جرى ويجري، لكن سيظل شاقاً على النفس مواجهة حقيقة: أننا تُركنا… بطريقة أو بأخرى، بهوس فاضح أو مستتر، لا يمكن لسجين سابق أن يُسكت الحاح السؤال اللجوج: أين كنتم؟! لماذا تُركنا وحدنا؟! ألم يكن ممكناً أن تفعلوا ما يخفف عنا؟!..ألسنا سكان قرية صغيرة على ما يُقال؟! هل كنتم تمزحون عندما ألهبتم ارادتنا بشعارات الاخوة والعدالة والمساواة؟!
الترك والتخلي والاهمال هي سلوكيات تنتمي إلى فصيلة العنف الصامت الذي يمارس ضد البشر أفراداً أو جماعات. العنف المرّ باتجاهين: اتجاه الضحية/ الآخر، المُهان المُعذب بالنبذ وعدم الاهتمام به كأخ في الإنسانية، والعنف تجاه الذات عبر السماح لإنسانيتنا أن تتجزأ أو تتعّصب أو تغض الطرف وتلبس قناع الجهل أو التجاهل اللذين لا يليقان بالكرامة البشرية.
الخبر الجيد أنه غالباً ما يميل الضحايا إلى تلّمس العذر لإخوتهم في الإنسانية، فيقنعون أنفسهم أن الآخرين لم يهبوا لنجدتهم لأنهم لا يعرفون أو لم تصلهم صورة واضحة عن الوضع أو ..أو.. لا أحد، وخاصة الضحية، يريد قتل الأمل بالنجدة التي يمكن أن تصل ولو متأخرة أو حتى بالعزاء الذي أطمع أن لا نبخل به بعد أن أصبحنا نعرف !
اليوم، يشعر السوريون عامة والنساء والأطفال خاصة أنهم متروكون في سجن كبير. والأقسى من ذلك باتوا يفقدون الثقة بحقوق الإنسان وحريته وبمصداقية الدول التي تنادي بحماية هذه الحقوق، الأمر الذي يعني انسداد نافذة الأمل بالعدالة والإنسانية، وبالتالي الاستسلام لوحشية الاستبدادين السياسي والديني والتكيف معهما وعدم الرغبة بمقاومتهما، وما يعنيه هذا من خزان احتياطي للتطرف سيطيل أمد الحرب في سوريا والمنطقة وسيتردد صداه في العالم.
عندما خرج السوريون والسوريات مطالبين بالحرية والكرامة كانوا يظنون أنهم ينفتحون على العالم، يعلنون رغبتهم وأملهم بالانتماء إلى البشرية المتحضرة، وكانوا ينتظرون أن يرحب العالم بهم ويساندهم ويأخذ بيدهم، لا أن يتركهم لمصيرهم، بل أسوأ من ذلك أن يسمح لكل متطرفي الأرض أن يجتمعوا في سوريا ويغتصبوا ارادة شعبها ويستولوا على مواردها وبلداتها ويضعوا السوريين أمام خيارين مدّمرين: إما الهرب إلى حضن النظام أو الاستسلام أمام عسف التسلط الأصولي الذي يتناقض مع مفاهيم الحرية والكرامة الشخصية والمجتمعية.
كلنا يعرف أن ما آلت إليه الأوضاع في سورية، يستدعي امكانات دولية تتجاوز كثيراً امكانات منظمات وأفراد، لكنها بالمقابل لا تستغني عن مؤازرتهم ودعمهم الذي ساند الكثير من الأسر خلال السنوات الأربع الماضية. في سورية اليوم أربعة ملايين لاجئ إلى دول الجوار، عداك عن حوالي سبعة ملايين آخرين اضطروا إلى النزوح الداخلي. ما يعني نصف سكان سورية تعرضوا لهجر بيوتهم وبلداتهم تحت وطأة الحرب المدمرة وخسروا سكنهم وأمنهم وممتلكاتهم، وما يعني أيضاً من ازدحام الأماكن الآمنة نسبياً والنقص الحاد في شتى صنوف الخدمات فيها بالنسبة لعموم السكان.
وعندما نتحدث عن المساعدة فهي تشمل مروحة واسعة من الحاجات الملحة تبدأ من تأمين الحماية النفسية ومباشرة صنع السلام في النفوس والعقول ومحاربة خطابات ومظاهر الكراهية، بالتوازي مع كل أشكال الدعم المادي وتوفير الغذاء والماء والتعليم والعمل، وصولاً إلى انهاء الحرب وقيام المجتمع الدولي بواجباته تجاه توفير حياة آمنة كريمة لملايين السوريين. كل هذه المتطلبات تحتاج إلى عمل كبير ومستمر من الرجال والنساء، وخاصة من السوريين وأصدقائهم المتواجدين خارج سورية الذين يتمتمعون بدرجة من الأمان والقدرة على المبادرة والحركة وايصال صوت ومطالب السوريين المحاصرين بين فكي وحش الاستبداد المتسلط على حياتهم. وقبل كل ذلك وأثناءه ينبغي العمل بلا كلل على تحرير المعتقلين والمخطوفين، هؤلاء الضحايا المؤجلين، هم كرامتنا المهدورة والمهانة طالما ظلوا هناك متروكين عرضة للموت ليس تحت التعذيب فحسب، بل تحت ضغط الجوع والمرض والازدحام وقلة النوم والقهر. علينا واجب العمل على ملف المخطوفين والمفقودين وعلى ملفات الاغتصاب والاعاقات الجسدية… وفي كل هذه الملفات قامت النساء ويقمن بعمل جبار وفعال وعليهن يعقد العزم والأمل بالاستفادة من التجارب الشبيهة وتجربة السنوات الأربع الماضية، دون اهمال العمل على تثبيت حقوقهن وصونها في تشريعات وتوافقات تتناسب مع مشاركتهن والأعباء الملقاة عليهن، وهذه احدى الخلاصات التي لحظتها الأمم المتحدة، حيث أن النساء عموماً يؤجلن المطالبة بحقوقهن إلى ما بعد انتهاء النزاعات، ما يؤثر سلباً على امكانية مشاركتهن الفعلية في اتخاذ القرارات.
كلمة سريعة عن الحرية
يحتدم النقاش حول بلدان “الربيع العربي”، وبشكل خاص حول سوريا، وتذهب الطروحات باتجاه البحث عن أسباب جوهرانية متعلقة بطبيعة الشعب السوري وانقساماته وهوياته المتعددة، وغالباً ما يوصف الصراع بأنه صراع طائفي أو ديني، ويجد الطغاة ومناصريهم متعة خاصة في النيل من مفاهيم الحرية والثورة والربيع أيضاً. وهنا لابد من توضيح صغير: إن الثمن الباهظ الذي دفعه السوريون ومازالوا يدفعونه، هو بسبب هستيريا الاستبداد المهووس بفكرة الخلود والبقاء للأبد. كل هذه الوحشية هي حقيقة نظام الديكتاتورية الذي تكّشف أنه وحلفائه هم المسؤولين عن تفجير النزاعات الطائفية والدينية وتغذية كل أشكال العنف والكراهية بين البشر.
الحرية والربيع السوري شهدناهما في آذار 2011 وشاهدهما العالم كله معنا. كانت الحرية هي الكلمة السحرية التي فتحت أبواب الأهالي في وجه المتظاهرين الملاحقين من قوات الأمن دون السؤال عن طائفة أو دين، وكان الأمل بحياة بلا طغيان يدفع الناس للتشارك في العمل والموارد والأفكار، كانت الحرية تشيع خفتها وحلاوتها، فيحلق الابداع وتعلو الابتسامات ولا يملك الجسد إلا أن يرقص احتفالاً بحياة جديدة مشتهاة. السوريون مثلهم مثل شعوب الأرض قاطبة لهم خصائصهم وخصوصيتهم، لكنهم لا يختلفون عن غيرهم في عشقهم للحرية وحقهم بها.
فأنا ولدت لأعرفك، لأسميك يا حرية.. هذا ما يريده السوريون وما يرددوه مع شاعر فرنسا العظيم بول ايلوار.
فلنعمل معاً لأجل حرية لسوريا.
* الكلمة التي ألقيتها في باريس بمناسبة الاعلان عن تأسيس جمعية تضامن المرأة السورية تحت عنوان: المرأة السورية نضال مستمر لأجل الحرية