صباح الخير يا عليّ
هي رسالةٌ إذن! سأتغاضى عن مكانك المجهول وكيفيّة إرسال الرسالة، وسأنعم بفرحةِالتواصل معك. وسأتخيّل أنك ستكون أحسن حالاً وسيشرق قلبك، وربما ستبتسم رغمَ حديث الشجون الذي ينخر أوقاتنا المحسوبة علينا كحياة. ولمَ لا؟!، فالرسالة دليلُ الاهتمام الشخصيّ الحميم بالمتلقّي، فما بالك إن كانت من امرأة!، وهذه المرأة التي هي أنا، ليست زوجةً ولا أمّاً ولا من الأخوات ولا من قبيلة الخالات والعمّات والجارات، ولا هي من الحبيبات السابقات، ولا من الصديقات، مع ذلك فهي فجأةتصبح «أهمَّ» واحدةٍ فيهن!، ابتسم يا عليّ، ولتطمئنْ نساءك، فأنا «الأهمُّ» للحظاتٍ، وبسبب البعد لا القرب، أعرف أيَّ إطراءٍ لسجينٍ يحمله سلامٌ من جارٍ بعيدٍ أو جارةٍ لم نحفظ اسمها، ليس أدفأ من كلمة: نتذكرك، ولا أحنّ من سؤال: كيفك؟، ولا أطرب من سماع أصداء الجدالات والثرثرات والتفاصيل. لو يعرف الناس طيبةَ قلب السجين وتواضع مطالبه: لا تتركوني فريسةً للنسيان!.
وعداك عن النساء وحقّهن المشروع بمعرفة حيثيّات الرسالة، عليَّ أن أحميَ نفسي من هجمات جيش المتذمّرين الساخطين الذين ينهضون ضدَّ كلِّ قضيةٍ وفي وجه كلِّ مطالبةٍ: لماذا الحديثُ عن عليٍّ دون غيره؟ ولماذا الآن؟ وكيف؟ولم؟ ومتى؟ يجب ولكن… إلخ.وكأنّ كثراً يتواطؤون على جعلنا نركن إلى الصمت والعطالة.
لكني سـأحتاط للأمر، وأعلّلأن لهذه الرسالة غاياتٍ تتّصل بما كان ينبغي أن نتناوله بحثاً أو تعقيباً أو حتى تذييلاً في أحد الهوامش. ألم نكن «رفاق طريق»؟!، وكم مرّةً غلّفت رسائلَ لك ولشباب سجن عدرا، وكم استلمت من رسائلكم الأثيرة؟، وكم تابعت أخبار «أم عليّ»، حتى إنّي زرتها في بيتكم في المخيم، كنت أريدُ أن أوصل لها بعض التوصيات الصغيرة، لكنّها لم تدع لي مجالاً للحديث وقد أمطرتني بالأخبار والمشاعر والملاحظات والآراء والانتقادات، التي كانت كلُّها ردّاً علىفضولٍ أفلت مني: حدثيني يا خالة عن ابنك عليّ.
كم تشبه والدتك يا عليّ!
دعنا نبدأ من هناك، لماذا لم نلتقِ سابقاً لقاء صديقين، رفيقي طريق، كائنين كابدا محنة العمل السياسيّ السرّيّ والسجن؟،هناك مئات الأسباب لنلتقي، إذن ما الذي جعلنا نتوارى خلف أوهى المبرّرات، ونمرُّ ببعضنا بلامبالاةٍ مقيتةٍ وكأننا «يا دوب» سامعين ببعض!، آه عفواً، لم أنتبه، أهلاً وسهلاً.. ألم تكن هذه حالنا بعد السجن ونحن «رفاق الأمس»، نلتقي بعضنا وقد تسلّح كلٌّ منّا بزوجٍ أو زوجةٍ أو قريب، وتحاشى الآخر بذريعة العمل أو الدراسة أو المراقبة الأمنيّة؟!، لمَ كنّا نهرب؟!، تُرىهل كنّا نحاول أن نعود إلى «بيت الطاعة» الاجتماعيِّ؟!، بعضنا لم يخرج منه أصلاً، وهو يعتبر أنه لا شأنَ للحزب السياسيّ بالجوانب الاجتماعيّة!، هكذا، حتى لو كان بصدد «ثورة»، حدُّها الأدنى تغيير ٌسياسيٌّ جذريٌّ: إسقاط الديكتاتوريّة والظفر بالحريّات السياسيّة (على أساس أن الحريّات الاجتماعيّة تفصيلٌ، تحصيل حاصل، هامش. لو تعرف يا عليُّ كم ندفع اليوم ثمن هذا الفصام بصورٍ مختلفة!).
وعلى ذكر «بيت الطاعة» الاجتماعيّ، أهو «بيتُ الطاعة» أيضاً الذي كان وراء موجة الانزياحات الفكريّة، والأوهام التي رافقتها عن العولمة واللبرلة اللتين ستحلّان مشكلات العالم، وبطريقهما «ستقنعان» الديكتاتوريات أن تخلعَ أنيابها ولو على مضض، وتتحوّل إلى «ديمقراطيات»، يمكن، «بل يجب التعود على التعايش معها بدل معاداتها»؟! كما ذهبتَ في كتاباتك أكثر من مرة.
لا أريد أن «أحمّلك» وحدَك مسؤوليّة التخبّط والهشاشة الفكريّة التي شاعت، ولم تزل في أوساطنا، بقدر ما أريد أن أخبرك كم أشعر بجرحك، وأنت (وأمثالك) أبديتم كلَّ المرونة والتسامح والاستعداد لتقديم التنازلات، لاختبار إمكانيّة التحرّر دون دماءٍ وخرائبَ، ظنّاً منكم أن كبار العالم «الحرِّ» سيسمحون باللعب معهم والانضمام إلى نواديهم!.
كانت الانتفاضة مناسبةً لألمسَ خبث المزاعم التي زرعت الشقاق «بين شباب الثورة وكبارها»، في محاولةٍ لحرمان الحراك من التزوّد بأيِّ خبرةٍ أو معرفةٍ عند سياسيّين سابقين. رغم ذلك، رأيتك وسمعت كثيراً عمّا فعلته باختيارك الانتماء للهامش، للطيبين الشجعان المحرومين، كم ساعدت بإخلاصٍ ودون كللٍ، وكم شعرت بمسؤوليّةٍ تجاه هامشك الآخر: المخيم، وكيف انصرفت بتواضعٍ إلى أعمالٍ تأنفها بعض «النخب» من اتصالاتٍ وجهودٍ لتأمين مصابٍ أو توسّطٍ لحلِّ خصومةٍ وتهدئة خواطر، وكانت قد بدأت تظهر حساسيّاتٌ وتحزّباتٌ سياسيّةٌ وطائفيّةٌ وميلٌ مبكّرٌ إلى العسكرةالعشوائيّة بين المتظاهرين.
يعزّيني يا عليّ أننا التقينا في مناسباتٍ عامّة «سعيدةٍ»، وبين أصدقاءٍ وأحبةٍ، حيث استطعتُ أن ألمسَ اندفاعك وكرم نفسك ولهفتك وميلك للمبادرة (ربما إلى حدود المخاطرة!)، كنتُ كلَّ مرّةٍ أرى فيك ابن البلد الطيب الشهم، ابن المرأة الشجاعة أم عليّ وابن المخيم ورفيق السجن، منحازاً إلى الهوامش بنزقها وحرارتها وصخبها وهمومها وسخائها رغم ضيق خياراتها.
وها أنت اليوم في هامش الهامش، حيث لا عنوانَ لك ولا خبر عنك، حيث يصبح السجن مضاعفاً على رجلٍحارٍّ مثلك، وضاغطاً على أرواحٍ عاجزةٍ مثلنا.ومع ذلك، أومن أنك لن تعدم وسيلةً للتمسّك بالحياة، وأنك ستجد متّسعاً من الروح
لاحتضان سجناءَ يحتاجون عونك.
أعترف أننا مقصّرون تجاه قضية المعتقلينوالمغيّبين قسريّاً، ولكنّا لا نملك إلا أن نمسحَ الغبار عن أماكنكم وننتظر عودتكم سالمين أحراراً كما يليق بكم.
سلّم يا عليّ على من حولك، وأخبرهمعن كثيرين (مثلي) يكتبون لهم رسائل ستصل… ذات حرية.
2015
حنطة
لقراءة المقال الأصل اضغط/ي هنا