مطلع شهر كانون الأول (ديسمبر) رحلت الكاتبة المغربية فاطمة المرنيسي، وكسائر الكتاب تركت لنا ارثاً يجعلها حاضرة معنا، نستطيع قراءتها ومناقشتها والاهتمام بمنتجها المعرفي، بدل استسهال “كليشيهات” الرثاء التي بصورة ما تعّجل في طي سيرة حياة الراحل/ة وتدفعها إلى أدراج النسيان، عبر رفعها إلى مرتبة المقدّس أو الأيقونة.
هذه العجالة، محاولة للتمسك بحياة الكاتبة، عبر استحضار أفكارها ومشاعرها، كلماتها وتناقضاتها، نجاحاتها واخفاقاتها كما عاشتها وعبّرت عنها في واحد فقط من كتبها: شهرزاد ترحل إلى الغرب (العابرة مكسورة الجناح).
يصعب تصنيف الكتاب، فهو ينتمي إلى مجال علم الاجتماع، سواء في موضوعه أو بعض معطياته الاحصائية والتاريخية. لكنه يفتقر إلى منهج البحث، حيث يأخذ الظواهر كمعطى منعزل عما حولها، يعمم حالات فردية منتقاة بالصدفة أو الرغبة على مجتمع بأكمله، يقفز بانتقائية بين العصور والجغرافيا ليعثر على فكرة مسبقة مفادها: الإسلام متسامح ومنفتح على جميع الثقافات، والمرأة المسلمة (عبر الزمان وعلى اختلاف الجغرافيا التي تجمع الفارسية بالهندية والتركية بالأندلسية والعربية) متميزة بالذكاء خاصة وبالتوق إلى الحرية. أما الرجل المسلم فهو الكمال بعينه من حيث غناه المعنوي والفكري وتنوع حاجاته التي لا تقف عند الجسد بل تتعداه إلى الروح واعلاء شأن العقل وتقدير الفطنة والحنكة والتهذيب النفسي، ومن حيث قوته الجسدية وجماله وجرأته وسعيه للحرب والانتصار والبناء ونشر المعرفة والمرح والرفاه..الخ
نعم إذا كانت شهرزاد أسطورة فهناك غيرها جلبتهن الكاتبة في رحلاتها المعقدة، كلهن أميرات وفارسات ولن يفسد سعيها أن أكثريتهن من الجاريات سبايا الحروب، مادمن قد خضعن لتقويم “الاسلام” من التمرين والتدريب على نطق العربية والغناء وقرض الشعر ولعب الشطرنج أيضاً، واجتياز مباريات الذكاء التي كان يجعلها الخليفة المأمون شرطاً الزامياً لشراء الجارية.
أما الرجل المسلم فهو بلا منافس: هارون الرشيد، وما أدراك ما هارون الرشيد!
كاتبتنا مبهورة بالأسطورة، تدخل فيها ولا تستطيع أن تخرج ولو قليلاً لترى إلى جانب ذكاء شهرزاد وجرأتها، مأساتها ومأساة شعب من ورائها محكوم بكامله بمزاج منحرف لطاغية متوحش. الأمر الذي يجعلنا نعتقد بداية أن الكاتبة تريد أن تدّلنا على طريق اللاعنف لحلّ التناقضات مع السلطات المستبدة، لكنها تحيلنا إلى وصفة معقدّة تتعذر معرفة مكوناتها بدقة، إنها خلطة الذكاء مع الدهاء وما تسميه “كيد النساء” الذي هو مزيج دقيق من المعارف الشاملة مع السحر والميزات الخاصة من الجمال إلى اللطافة مروراً بسحر الصوت وتمهل الكلمات ومتعة البوح في الليالي (السمر الذي لا يعرفه الغرب)… الخ ما مؤداه تأبيد التعلق بالأساطير وشخوصها وحلولها تعويضاً عن محاولة الخوض في المُعاش البائس اليومي الواقعي، فترانا نتجاوز التمييز الظالم تجاهنا كشعوب مبتلاة بالاستبداد، لا نستطيع دفع الظلم والتمييز إلا بتمييز آخر: أن نكون نساء ذكيات ماهرات بالكيد عارفات جميلات…الخ أليس هذا تمييزاً وعدم مساواة، ولماذا اختارت المرنيسي أن تقارن بين أسطورة شهرزاد وبين صحفي فرنسي أخبرها أنها يحب المرأة البكماء، لتستنتج (مع مقتطفات منتقاة أخرى) أن الشرق يقدّر التعبير وفنونه، لكن الغرب معادي لحرية التعبير، ضاربة صفحاً عن كل النضالات التي أسفرت عن حقوق الإنسان وحقوق المرأة تالياً!
والكتاب ليس رواية، رغم وجود الحكاية فيه، حكاية الكتاب وكاتبته، من أين أتتها فكرة الكتاب وكيف تطورت وتشعبت ورحلاتها عبر الكتب والمتاحف والمقاهي ودردشاتها الهاتفية وأسئلتها للصحافيين وتأملاتها ومقارناتها وحتى استرخاءاتها على شط البحر أو في المقهى، الطعوم والروائح وثيابها وناشرة كتبها وبعض “النمائم” كلها كانت بخدمة موضوع الكتاب… ما كان يفترض أن يكون مثالاً تطبيقياً عن أساليب البحث، وما يوحي بغنى المصادر وتنوعها. لكنه اقتصر على ابراز قدرتها على الروي السلس الخفيف رغم ثقل الموضوع، ما يشي بإمكانية أن تصبح الأبحاث والعلوم محببة وسهلة الهضم وفي متناول القراء، شرط القدرة على مواءمة الموضوعية والجدية مع أسلوب القص. الأمر الذي لا يتوفر كثيراً في كتابنا. فالمرنيسي تستطيع أن تعطي لنفسها الحق في ” لو كنت مكان زوجة الرسام أنجر الذي رسم لوحة الحمام التركي لقطّعت الجارية ارباً، لحرقتها كما يفعل البوذيون… ” منتقدة تصالح الزوجة الغربية مع مهنة زوجها واستغراقه في اللوحة، مع أنها تمرّ باستهانة لا تغتفر على ما يمكن أن تكون معاناة ألفين من الجواري (الحريم) اللواتي كان يملكهن “هاورن الرشيد” واللواتي كن يخضن صراعاً ضارياً على قلب الخليفة “الجذاب والأنيق”، صراعاً كان يؤدي إلى القتل عدا المكائد والتناحرات والانتحار، ناهيك عن ملايين النساء اللواتي لا تراهن الكاتبة أصلاً، فهي مهتمة بأحوال السلاطين والقادة المحاربين الفاتحين ومن يدور في فلكهم! حتى أنها تتكلم بلسانهم وتقيس بمقاييسهم، فها هي تمضي إلى عام 1611 لتستخرج منه قناصة مغولية هي الأميرة “نورجاهان” تتقن فنون الصيد وتضعها بمواجهة فنان فرنسي “تسخر” من هوايته “الناعمة” في عزف الكمان! علماً بأن الصيد كان في زمان ومكان الأميرة وارداً مثلما كان عزف الكمان بالنسبة للفنان، لكن الكاتبة لا تريد أن ترى إلا الأميرة كمسلمة من الشرق، والفنان مسيحياً من الغرب!
وكمثال آخر على المقارنات العجيبة، تغمز الكاتبة من قناة مدح السخاء والكرم والبذل التي تميز بها “هارون الرشيد”، لتذكر عبارات قالها صحفي فرنسي بصدد أنه لا يحب أن يصرف المال على حبيبته، أو أن لا طاقة له على طلباتها المفترضة من الثياب وأدوات الزينة. ولتستنتج بخفة أن المتعة خُلقت لمن يقدرها، أمثال الخليفة العباسي الذي كان يدفع ثمن الجارية وسطياً ثلاثة آلاف دينار (علماً أن شاعر مثل ابن زيدون كان دخله السنوي 500 دينار أما عامل البناء فكان لا يحصل يومياً على أكثر من ثمن 3 كغ من الخبز) حسب ما تورد الكاتبة. اذن ما علينا إلا أن نرضى بقسمتنا والتمتع بحكايات السادة “المسلمين”!
تقول المرنيسي ” لو لم أتعلم، لكنت اخترت مهنة الشوّافة، كنت سأكون أفضل شوّافة في المغرب بأسره، لأن الشوّافات يبعن الأمل والارادة، ويمتهن حرفة اقناع زبائنهن بأنهن قادرات على تغيير قدرهم..”
ورغم وجاهة بعض الأفكار والمقولات في الكتاب، إلا أنه بالفعل يمارس مهنة بيع الوهم (وليس الأمل)، الوهم بأن هناك أمة اسلامية “كونية” متميزة، ونساءها أقل اضطهاداً من نساء الغرب (حتى الجواري منهن)، وأننا نستطيع بالذكاء و”الكيد” أن نتحرر، وأن سلطات الاستبداد الذكوري والسياسي والديني هشة كثيراً ونستطيع خلخلتها بالذكاء والفن والسحر والحكايات الآسرة وغيرها.
الأمل شيء آخر تماماً، لعله يبدأ من التواضع بالنظر إلى أنفسنا وتاريخنا، من نزع هالات التقديس للماضي و”أسياده” ومن احياء روحية انصاف البشر والمساواة بينهم، بل ومن قدرتنا على الاعتراف بوجودهم قبل كل شيء!
شبكة المرأة السورية